قراة ناعمة : من أين أعبر
قصيدة الدكتورة منى بلخيري
قراءة : الطيب عبادلية
أعترف أنها راقت لي في المعنى والدلالة وسلاسة اللغة ..
وأقر – أيضا – دون خجل أو مواربة أنني اعتزلت المتابعات الناعمة ، فقد قررت تجنب هذه القراءة تلقائيا ، خاصة بعد توفيقي في إصداري لكتاب – الرصيد والتجربة بين الذانية والواقعية في قصص وحيدة تجميعا لكل متابعاتي لكتابات الآديبة وحيدة رجيمي .
وعندما قرأت على واجهة الدكتورة ما نشرت لقصيدة عنونتها من أين أعبر ،،
قرأت كأي متصفح ، ثم قرأت كأي محب للقراءة ومولع بها ، وقرأت كواحد عاشق للتفسير والتأويل فالأدب يسمح لنا بكل هذا دون غيره من الكتابات الآخرى .
فقد اختارت منى – مع حفظ الآلقاب – عنوانا لقصيدتها سؤالا وهو نفسه البداية ..
كأنها تجعل من السؤال مفتاحا لنستعين به للولوج في أزقة القصيدة .. ألا و هو مصباح لإضاءة دهاليز الدلالة والوقوف عندها .. أو لعله زورق للإبحار بنا بين أمواجها الهادرة للقصيدة .. فالمرأة عندما تغضب تصبح بحرا هائجا ينذر بالعاصفة .
فقد تلاشت الطرق كلها ( طرق الراوي العليم ) فإذا كانت كل الطرق تؤدي إلى الطاحونة فكل نبض يؤدي من وإلى قلب من نحب ، إلا أن الدروب صارت وعرة لآنها أساسا متلاشية ،
إليك تحديدا ( دون غيرك ) ، وهي هنا ليست مضطرة بالقول إليك دون سواك .. فالدكتورة تحسن أدوات الاستثناء فلو قالت ( دون ) لوقعت في المباشرة بتحديد المقصود ، وهي – أيضا صاحبة النص – أدرى الناس بأن القصيدة بنشرها تخرج عن نطاق احتكارها لصاحبها إلا بالملكية الفكرية ، ومن يقرأ القصيدة يصبح صاحب حق بالقول أنها تعبر عنه أو بعضا منه .
ولأن وتيرة زلزال الوجع جعل منى الشاعرة تكثف اللغة لتعبر وتعبر ( بضم التاء الآولى وفتح الثانية ) إلى مقاصدها دون تشويش جانبي ، ما غضب القلب ، وظفت لفظ القلب ولم تقل الفؤاد فالقلب بالدلالة الروحية مركز الإطمئنان والطمأنينة ، وتترك لنا هامشا للبحث عن جواب للسؤال الذي تحديد أبعاده في الجملة الموالية ..
حين صبئت عن هواه .. قلت أن منى لا تتلمس طريق ومسار القصيدة ، فقد وظفت كلمة ذات دلالات وكمعنى لها تفسير ..
صبئت .. الخروج عن دين قومك .. وقد كنت .. كفرت بما كنت تؤمن ، هي الردة عن وعد نكسته .. الدين الإيماني هنا .. هواه ..
قالت لنا الشاعرة .. كفر جهرا بوصله ..
صبيء هي البداية وكفر هي النتيجة ، ويعني عنا أنها تقطع الشك بسيف اليقين ..
صبئت فيها أمل بالتراجع ، كفرت وهي إنكار وجود ما كنت تدعيه فقد صار إلحادا ..
ودون أن تخرجنا الشاعرة عن النص ، تحلينا إلى خلفية فكرية موروثة .. العرافة بأي تسمية نسميها ، قارئة الكف ، قارئة خط الرمل ، قارئة الفنجان .. قالت الشاعرة ..
لقد قرأت في فنجانك .. ولو كانت أخرى لقالت لقد قرأت ما في فنجانك ، ولو كانت ثالثة لقالت .. قرأت فنجانك ..
هنا نكتشف نباهة وتمكن الشاعرة منى الحكم الفصل ..
لقد قرأت ولم تقل قد قرأت .. لآنها تعرف جيدا أن ( قد ) تفيد التحقيق لدخولها على فعل ماضي ( قرأت ) ، وهي تقصد أن ما أرادت قوله إفصاحا ما هو إلا يقين لذلك وظفت ( لقد ) الذي يفيد التأكيد .. فتكشف لنا قراءة الفنجان هذا الذي لم يغضب القلب عندما خرج عن ملة هواه ، ثم كفر ، وقطع كل خطوط الوصال والوصل به ، إنك منفى ، لحظة ، ألقيت به في عتمة الظلمة والظلام وتنتقل بنا الشاعرة من تصغير مصادر الأضواء إلى الأكبر ، الشمعة فالقمر وهو منير ، والشمس وهي ضياء ، بصياغة لها دلالة ، تطفي الشمعة ( بصيص أمل ) ، تدفن القمر ( سحب سوداء قاتمة ) ، ( تجر الشمس إلى تخوم الظلام ) وهو غروبها ( ظلام الليل وعتمته ) ، هذا التلاشي الكلي لمصادر الهداية في الإتجاه وقد أقرت به الشاعرة في بداية القصيدة ( تلاشت كل الطرق ) لذلك عبرت عن حالة الضياع والارتباك والتيه ( دفعني للركض ) ( وراء الفراغ ) …
عندما تضيع منك الطريق ، وتتفرع السبل ، تجدك في دور في المتاهة ، / وقتها يمكن القول أن قهرها ، والصدود وقسوتها ، والحصون بمتاريسها ، تحتاج إلى قوة قاهرة هي الصبر والتجلد والثبات لفت كوة هي الآمل بالمحاولة والسعي ، تلك فإن لم تحدث وحتى إن حدثت فاليأس قائم وسيد الحالة ، والمسيطر يفرز الملل وهو الأرضية الخصبة ليزهر الضجر ، فثمة مكانة في النفس تفرز باحاسيسها الترجمة التحليلة ، سواء كان حقيقيا أو في حالة كمون ظرفي عبرت عنه الشاعرة بالتمدد في الآوردة ، ولو توقفنا قليلا هنا لأن الشاعرة وظفت الآوردة ، وليس غيرها وهي الـأوعية الدموية الذي يعود بواسطتها الدم إلى القلب من أنحاء الجسم للتخلص من غاز سام ،
وتعود إلى الذات المتوجعة ، والمتضورة ألما ، ( الآنا )
أراني أمطر عشقا ، فهل هذه تعبير صريحا عن حالة البكائية التي تستولي على الآنا الفاقدة لشيء استأنس به القلب . لكن الجملة التي تلي تبطل هذا إلا أن الآنا ما كانت إلا في حالة حب وترقب مجيء من سكن القلب ، فهي تتجمل له بتلأليء ساطع كبريق النجوم ، التي ينعكس بريقها على وجهه الطروب ، المنتشي فرحا لكن .. تضيع كل هذه الآماني فهو.. الآخر المنتظر ، هناك وهي إشارة تدل على البعيد ، وهو المتواري خلف ماذا ، هنا تحيلنا منى على المعنوي بدلالة مادية ( تلال ) مادي ( الغضب ) حسي معنوي ، ونتخيل أن شدة الغضب تتحول إلى مؤثر يحجب عنا ما نريد رؤيته ، تأكيد للتأويل تفسر منى هذا الغضب ما هو إلا تهديد أو لعله بعبارة ناعمة الخطوة الآولى في رحلة الفراق ، والمحصلة في النهاية خذا الاستيقاظ التي تعيشه البطلة ( المتكلم ) ، تستيقظ على هذا الذي منذ البداية تشير غمزا ولمزا له على أمل ، والنهاية ، تكتشف حالة غباء حسن النية ، لآنها وبصدق نواياها ، كانت وبسذاجة ( عودة إلى حسن النية ) الظن ، كانت ترتب وكلمة الترتيب عند المرأة الولهانة ، يكون كل شيء في الممتاز ، والراقي ، والنهاية هذه الخيبة غير المنتظرة .. فالبطلة وهي في منطوق الجملة الآخيرة تحيلنا على جملة هلامية لا يمكن القبض عليها بسهولة ، أجمع زجاج الذكريات . الذكريات هو أقرار بالفشل ، وأن صبئت ، كفرت ، لم تأت اعتباطا فحالة النكران والتنكر جريمة قائمة بذاتها وإن تعددت التبريرات ، واستمرار المحاولة ما هو إلا تحد لحالة الفشل ، المعترف به في منطقة الجملة الآحيرة ..
هذه قراءة ناعمة في قصيدة شاعرة متمرسة في عالم الومضة والهايكو ، وإن كنت أفضل أن تكون شاعرة بما ملكت من ناصية اللغة .. ولها بالغ النظر . .. شكرا لكل من صبر على هذه القراءة …
الروائي الطيب عبادلية
*********
اليكم القصيدة:
من أين أعبر
و قد تلاشت كل طرقي
إليك…
ما غضب القلب
حين صبئت عن هواه
و كفرت جهرا بوصله
لقد قرأت في فنجانك
أنك منفاه
مذ اطفأت شمعه
كيف لك ان تدفن نور القمر
و تجر الشمس
الى تخوم الظلام
دفعتني للركض
وراء الفراغ
وامتطيت المساء
أشق عناد الهوى
أبارز الضجر
و انت في اوردتي تتمدد
و أنا…
أراني أمطر عشقا
ارتدي نجوم الليل
لأضيء وجهك
و أنت هناك
خلف تلال الغضب
تلوح بالهجر
يا لسذاجة ظني
كنت أرتب للقاء
و عدت اجمع زجاج الذكريات