ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة(طبق شهي من المشاعر) مسابقة القصة القصيرة بقلم / دعاء عيد أحمد محمد عثمان .مصر

دعاء عيد أحمد محمد عثمان
دعاء عثمان
مصر
01200358386
عنوان الصفحة الشخصية على الفيسبوك/ https://www.facebook.com/profile.php?id=100024011176883

طبقٌ شهيٌّ من المشاعر – قصة قصيرة

تجلس على إحدى المقاعد، تنتظر وتنتظر، لكن هناك سبب يجعلها ببساطة لا يأتي دورها للدخول إلى حجرة الكشف عند الطبيب…
ينظر لها الجميع في ريبة، ترمقهن واحدةً تلو الأخرى، تتفحص أجسادهن جزءًا جزءًا، تمر اللحظة بطيئة متكاسلة، تتلكأ هي في جلستها. تنهض واقفة في استماتة، تتلفت حول نفسها في حذر، تتقدم خطوات، وتسأل الحارس أن يدعها تذهب إلى الحمام.
أغلقتْ عليها الباب، خلعتْ ملابسها ترى ما خبأته في جعبتها، لقد حصلتْ على وجبة وافرة هذه المرة؛ البعض من النظرات الرائقة والضحكات الساذجة اللذيذة التي تشتهيها، لكن الجديد أنها غيرت خطتها، تُمسِك في يديها قلبًا طازجًا، نزعته من جسد إحداهن بالزنزانة، تأملت الحمرة التي تغطيه، دغدغتها نبضاتُه المتوترة، ضغطتْ عليه بقبضة أصابعها، اقشعر جسدها من قوته، مزقته بوحشية، تحررت منه أصوات وذكريات ومشاعر عدة.
“أَحسِدُ أولئك الذين يستطيعون إعارة مشاعرهم للغير دون إكتراث!” هكذا زفرت، نفْسُها جائعة إلى وليمة سخيّة من تلك المشاعر، تنتظر، تتأهب، تترقب إفصاح إحدى زميلاتها عن إحساسها.
ينفلتُ الظلُّ من جسدها، ينفصل عنها، يحوم بالمكان سابحًا، يلتهم كل ما يقابله من مشاعر، التي ينبغي أن تكون حيّة بالقدر الكافي. عندما يخرج منها ويتحرر رماديًا؛ يحاول أن يُخفي آثار مروره، يغير هيئته في كل حين، لكن أبدًا لن تنسى كم من المؤلم أن يخترقك ظِلُّ شخصٍ آخر، يحاول أن يسطو على ما تشعر به، فيسلبك إياه.
تلوك وتتلذذ في فمها طعم الفرحة المتوهجة، تبتلعها في هناء شفيف. يبدو أن ظلها نجح في تدبر وجبتها اليومية أثناء محبسها، يعود إليها دون أن يلحظه أحد الحراس، أو أن يمنعه النظام الأمني السائد بالمكان من الدخول. لم يتردد صغار المحامين في الدفاع عنها بالمحكمة، قضية رابحة تمامًا؛ فتاة جميلة مصابة بالجنون، درجة خطورتها على الآخرين يمكن تفاديها بحجزها في مستشفى للأمراض العقلية، وبذلك تنتهي قضية كسائر القضايا التي تمر بسهولة ويسر.
هكذا ظنّ الجميع، وقف أحدهم يترافع عنها، وطلب من القاضي أن يسمح بتحريرها من قفص الاتهام لإثبات حالتها المرضية، نظر لها القاضي، وجدها هادئة، رقيقة الملامح، ووجهها مُصوَّبًا ناحية الأرض، فصرَّح بالقبول. أخرجها الحراس وهم قابضين على ذراعيها، أمرها القاضي أن تمتثل أمامه، رفعتْ رأسها، نظرت إليه في وجل، ثم استدارت برأسها تنظر إلى محاميها الهُمام، بينما يخرج منها ظلُّها النَّهِم، الذي توجَّه نحو باب الخروج من القاعة، فسقطتْ أرضًا، أسرعوا يحملوها إلى غرفة بالمحكمة، وأتوا لها بطبيب، أكد حالتها الصحية الهزيلة وشحوبها. ومن ثم رُفعت الجلسة بنقل المتهمة إلى المستشفى، ووضْعها تحت الحراسة المشددة من إدارة سجن النساء.
يسير ظلُّها في خيلاء وابتهاج بين الناس، فيتخبط بظلالهم التَعِبة والمستكينة، يخطف ما يشاء من الناس دون مقاومة من أحد الظلال. قادته شهوته إلى مكانٍ به قاعة كبيرة يتم فيه التجهيزات من أجل حفل زفاف هذه الليلة، رصدَ سيارة تنقل العروس لجناحٍ خاص، والزغاريد تتعالى بالمكان.
دخل معهم الحجرة واختبأ في المرآة المقابلة للباب، نظر إلى الفساتين اللامعة وهي تُعلِّقها إحدى رفيقات العروس، يدها بيضاء يتخللها رسوم الحنّاء التي تمتد إلى داخل جسدها الممشوق، أعجبته تلك الرسوم، فخرج من المرآة بعدما تَسلّط عليها الضوء الساطع، وتسرَّب إلى داخل جسد الفتاة يتلصص المتعة بمنظر الحنَّاء الأفعوانية، تعمَّق في الدخول إلى الخطوط وردية الشكل، داغ وزاغ عن مراده، جذبه لون الورد القاتم فوقع في سحره. ضحكت الفتيات بدلال و هُنّ يخبرن بعضهنّ عن ليلة أمس، حين اختلت السيدة “أم جميل” بكل واحدة منهن ترسم لها ما تريده. انتقل من جسدٍ إلى آخر، حتى صار بين الناس في حشد الزفاف.
على سرير المستشفى ترقد المتهمة خائرة القوى، يتلوَّى جسدها باحثًا عن ظله، حاولتْ أن تنام، أو تُهدِّئ وحشها الداخليّ ببعض الذكريات. فاستعادت إلى رأسها صورها القديمة تبحث فيها عما تأكله، هناك الكثير من الابتسامات الكاذبة التي مضغتها بتلكؤ.
* * * * * *
جمعتُ كلَّ الابتساماتِ من صُوَرِي، أنزعُها من خِضَّمِ اللحظاتِ الرائقة، ألتهمُها بشراهةٍ مُخيفة، أُطبِق عليها فَمِي فلا تهرب. ألوكُها بتلذذ، أبتلعُها دفعة واحدة، تغوصُ في أمعائي، تتخبطُ وتتدحرج بداخل معدتي، تتدافع راغبة في الخروج، أشعر بمغصٍ شديد، أتقيؤها بندم؛ فلم يكن فيها واحدة حقيقية، نعم جميعها زائفة مصطنعة، ألم يخطر ببالي أنني سأحتاج إليها عندما أتضور جوعًا!
لقد نَسِيتُ تنظيف المكان الفارغ محلّ القلب، فلا تختبئ به بعض المشاعر وتَفْسَدُ مثلما فسد هو من قبل، هل أضع فيه ثلجًا يحفظها من قيظ الصيف؟ هل هناك وسائل أخرى يمكن الإستعانة بها بدلًا من وضع الهاتف بداخلي؟ إنه لا يتوقف عن الطنين، يا له من مزعج يؤرق دماغي!
يخبرني طبيب القلب دومًا ألا أغضب أو أحزن، أنا لا أتذكر لماذا أذهب إليه؟ لقد أكلتُ قلبي ذات مرة من شدة الجوع، فلم يعد لي حاجة للذهاب إليه إذن. في كل مرة أنسى أن معدتي بها بعض الثقوب، نعم ذات ضيق كنت أمسك بدبوس وجدته بجواري، ومن أجل محاربة الملل أوخزتُ به قلبي _الذي بقيَ بمعدتي لفترة طويلة دون أن يُهضم_ حتى تفرّغتْ جوانبه، وهربتْ منها كل المشاعر التي استمتعت بلذتها قبل أن تتفسخ. فكيف لي بعدها أن أهنأ بطبقٍ شهيّ من المشاعر؟!
* * * * * *
من المُلفِت، أن انتشرت حالات مشابهة للمتهمة تم إلحاقها بالمستشفى ذاتها، حتى ظن الناس أن هناك مرض يُعدي الفتيات فقط، والبِكْر منهن على وجه التحديد، أو أن هناك خلل هرموني يصيبهن في مرحلة البلوغ. لم يستطع الأطباء أن يتوصلوا بعد إلى السبب الحقيقي، وإن حدث، لم يصدقه أولئك البشر المساكين.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى