الإسم: محمد لطفي محمد
الدولة: مصر
تليفون: 01005305453
فيس بوك:
https://www.facebook.com/mlotfyff
فرع: القصة القصيرة
قصة بعنوان: أم محمود
توقفت العربة أمام الشارع، وتحرك الركاب بداخلها ليفسحوا الطريق للنازلين.. ضيّقت “أم محمود” عينيها على باب العربة علّه يكون أحدهم!.. نزل أحد الرجال أولا، ثم التفت وأمسك بيد امرأة يساعدها على النزول.. أكملت العربة طريقها بباقي الركاب، فيما تشابكت أيدي الرجل والمرأة، وسارا معا في أحد الشوارع الجانبية.
ظهر الامتعاض على وجه “أم محمود” وهي تتابعهما بعينيها المجهدتين حتى غابا عن مدى بصرها!.. هما زوجان بالتأكيد، لا شك في هذا، لكن منذ متى كان للزوجين أن يتشابكا هكذا في شوارع بلدتهم المحافِظة؟! أين ذهب الحياء عند هؤلاء الناس؟!.. قارنت في نفسها بين الرجل وبين “محمود”، الذي – على الرغم من زواجه منذ سنوات – لم يمسك بيد زوجته في الشارع قط، بل ولم يتحدث إليها أثناء سيرهما أبدا إلا لحاجة أو ضرورة!.. تسللت ابتسامة حانية إلى شفتيها وهي تحدث نفسها:
– “وهل هناك مثل محمود! البلد كلها تحلف برجولته وأخلاقه”
قطع ابتسامتها ظهور سيارة أخرى قادمة من بعيد، فزمت شفتيها وضيّقت عينيها علَّها تكون المنتظرة؛ غير أن السيارة تجاوزتها وأكملت طريقها دون حتى أن تتوقف لتنزل أحدا!
تمدد الهواء الساخن قليلا، فتولّدت زوبعة صغيرة، حملت بعض تراب الأرض وألقته في وجوه المارّة.. أدارت “أم محمود” وجهها للجهة الأخرى، وأمسكت بتلابيب طرحتها السوداء كي لا تطير من على رأسها.. لمحت “الشيخ أمين” في بقالته الصغيرة ينظر إليها، فخفضت عينيها لتتحاشى نظرة اللوم المكتومة في عينيه!.. كان الجميع يلومونها بشدة على وقفتها تلك.. أخبروها مرارا أن “محمودًا” لم يعد طفلا صغيرا، ولم يعد يصحُّ أن تنتظره أمه يوميا على ناصية الشارع حتى يعود!.. لكنها ألقت بكلامهم كله خلف ظهرها، وصدّرت لهم “أُذنا من طين وأخرى من عجين” كما يقول المثل!..
– “وما أدراهم هُم!”.. هكذا قالت لنفسها..
– “لو كان لدى أحدكم ولدا مثل محمود، لوجدتموه يقف هنا بجانبي ينتظره كل يوم!”.. هكذا أرادت أن تصرخ فيهم، لكنها أحجمت في اللحظة الأخيرة خوفا على ولدها من أعينهم التي “تندَّبُّ فيها رصاصة”!
بل وحتى “محمود” نفسه راجعها في هذا مرارا.. أغمضت عينيها بألم وهي تتذكر ذلك اليوم، عندما نزل من السيارة مع بعض رفاقه، فأشاروا له إليها وهم يتغامزون.. أقبل غاضبا، وصاح:
– أنت تفضحينني.. إنهم ينادونني “ابن أمه”!
ثم تركها ورجع إلى البيت وحده. وقتها حزنت، ثم غضبت، ثم أقسمت أن لا تكلمه مرة أخرى!.. في صباح اليوم التالي صحا مبكرا، وخرج لعمله دون أن يمر عليها ويقبل رأسها كعادته، فتضاعف حزنها وغضبها عليه.. لكن ما إن سمعت أذان العصر في المسجد القريب حتى انتفض قلبها، ووجدت نفسها – دون وعْي – تضع “طرحتها” على رأسها، وتخرج لناصية الشارع تنتظره.. وحين نزل من السيارة بعد وقت طويل ورآها، هيّأت نفسها لغضبة أخرى؛ فإذا به يسارع إليها، ويقبل رأسها، ويرجوها – دامعا – أن تسامحه؛ ثم أخذ بيدها وعادا سويا إلى البيت!
– “هيييه.. كانت أيام!”
هكذا زفرت باسمة.. لقد أقر لها الجميع الآن.. لا يهم إن كانوا قد يأسوا منها أم تفهّموا شعورها.. المهم أنهم رضخوا في النهاية، وكفُّوا عن لومها وتعنيفها تماما!
سحبت طرف طرحتها ومسحت تلك الدمعات التي فرَّت من عينيها وسالت على وجنتيها.. لا تدري ما أصاب عينيها مؤخرا.. ضعف بصرها، ولم تعد الدموع تفارقها ليلا أو نهارا!.. ابتسمت برضا وقالت:
– “يلّلا حسن الختام!”
انتبهت لسيارة أخرى قادمة من بعيد، فدعكت عينيها جيدا، ثم ضيّقتهما محاولة أن تخترق السيارة لترى من بداخلها، و…
– “يا حاجّة..”
انتفضت، وكأنما ضربها النداء، ثم التفتت خلفها في وجل.. كان واقفا بقامته النحيلة الطويلة، مستندا على عصاه، وهو ينظر إليها بملامحه الهادئة وعينيه اللتين لا تشيان أبدا عما بداخله.. أجابته بنبرة ملأها القلق:
– “خير يا أبو محمود؟”
قال لها بصوت خفيضٍ حانٍ:
– “محمود اتصل، وقال إنه هيبات في الشغل النهاردة!”
أحست بانقباضة في صدرها، لكنها انتبهت إلى التماعة عينيه، فتماسكت من أجله.. هو مثلها يفتقد “محمودًا” ولا يتحمل يوما واحدا دون أن يراه، لكن طبيعته تأبى عليه الإفصاح.. رسمت على وجهها ابتسامة مطمئنة، وربتت على يده الممسكة بالعصا وهي تقول:
– “زيّ بعضُه يا حاج.. أصل هو إللي شايل الشغل كلّه يا ضنايا، وميعرفوش يعملوا حاجة من غيره.. بكره ييجي يا خويا، بكره ييجي!..”
ثم تركته واستدارت عائدة إلى البيت..
وقف يتابعها ببصره حتى غابت في حارة جانبية، وظل واقفا لدقيقة أخرى، وكأنما يخشى أن تعود مرة ثانية، وفي النهاية خطا نحو دكّان “الشيخ أمين”، الذي كان قد جهز له الكرسي فور أن رأى “أم محمود”.. جلس صامتا، بينما انهمك “الشيخ أمين” في صبِّ أكواب الشاي وهو يتمتم:
– “الله يرحمك يا محمود!”