أوتوجراف )
قصة قصيرة
أيمن عبدالحق/السعودية
صبيحة كل يوم تبرعم أحلامها في هذا الطريق. دفتر صغير مزركش تحرص على مصاحبته، تضعه في مكان يستطيع السابلة أن يلمحوه متوِّجاً حقيبتها .
تتوازى مع إطارات السيارات، توازيا يسفعها مرتين من وإلى المدرسة. لقد حفظت هذا الطريق بأحجاره وغباره ومساحات السبخ التي ترتمي على جانبيه. أمل واحد تستشرفهُ على بعد أربعة بيوت من سوبر ماركت الحي. أمل يخفف عنها وطأة الشعور بالاختلاف، لكن الوقت لا يجود به دائماً. مازالت تستشعر لمسة يده عند أول عثرة. “هل سأكون ضيفةً على خياله يوماً ما ؟ هل أخبرته أخته بسر ألبومات كاظم الساهر التي أخبئها تحت وسادتي ؟ هل سيفكر مجرد التفكير في فتاةٍ لا تملك قوامتها على الأرض “؟ .
تنتبه على صوت أبواق سيارة ألقى صاحبها التحية على أخيها عارضاً خدمة تصر دائماً على رفضها .
بعد عودتها من المدرسة تستسلم لسطوة غفوة تنتشلها من وخز الحجارة, ونتوءات الشوارع , وسهام العطف. تستيقظ وعلى صدرها كتابٌ في طريقه الآن لإنهاء تثاؤبه . تضع رواية ( نادية ) ليوسف السباعي بالقرب من كرسيّها المتاخم للسرير .
في المساء وفي فناء المنزل الصغير تنقِّـل بصرها بين ( الرديمة *) وشجرة الجوافة. الكل في هذا البيت يذهب حيث يشاء إلا هي، لكنها تذهب إلى مكانٍ لا يصل إليه أحد وتهيم أكثر مما يهيم غيرها , ولكن في مساحة لا تتجاوز ظل شجرة الجوافة. تحملها الأفكار إلى عالمٍ مجهول .. أحداث لا تستقر تفاصيلها على الأقل في هذه المحطة اليومية . تفترش كتبها وقد أسندت رأسها على الكرسي المتاخم للسرير .
أزعجها هذا الكم الهائل من أصوات الأشياء المتمرِّدة على سكون الدفاتر.تصر على مشاكسة هذا التمرُّد بشيءٍ من الصخب الداخلي .
تتأمل جسد والدها المتعب وهو يجرجر عربته أمامه مبتدئا الحداء بعد أن شيّعها بابتسامة حانية : بليلة .. بطاطا .. وحلاوة يا واد .
يبدأ الصوت عدّه التنازلي . تتراءى لها الأجسام تتحرك نحوها بقوة، تشدها من ناصيتها .. توقفها وتسير بها بضعة .. أوهام ! …
تدهمها موجة من ذهول شفيف وهي تتصور الأمتار أرصدة مجمّدة من حساب الزمن الجاري أو أضرحة تحوي شتات الأمنيات المنتحرة. تنسحب من دهشتها الحالمة كغيمة هاربة من سلة السماء.
قلبٌ مفعم وعقلٌ متوهِّج وأطراف تحاول النهوض من عثرة اليأس .
لا تجد رغبة قوية في إكمال الرواية. تلتقط النزيف العذب من تمرد السكون. ترقِّص صفحاته ذات الألوان الثلاثة على شكل حُزم. تقعُ عيناها على صفحة فارغة في المنتصف.
في هذا الخصوص، اعتادت أن تهرب من أسئلتهم بأجوبة غير مقنعة ! تنتقل يمنةً ويسرة ، لم تخلُ ورقةٌ واحدة من عبارات ظاهرها التشجيع وباطنها من قِبَلِها الشفقة … ، معلمة اللغة العربية وقد علقت على خواطر كتبتها .. صديقاتها المقرّبات وقد كررن الكتابة لها .. طبيبة الوحدة الصحيّة .. خالها بخطـِّه الأنيق، حرص أن يكون أول الموقعين . أخوها الذي اكتفى بسطرٍ واحد .. قريباتها المتزوجات اللواتي لم يكملن تعليمهن، تتذكر حرجهنّ من إجابة طلبها .. وصفحة فارغة … تركتها فارغة لأنامل ربما تفكر في زيارةٍ خاطفة لهذا القلق المتجدد .
******
الرَّدِيْمَة : هي شجرة الفل في جنوب الجزيرة العربية .