ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة: :أَحلامٌ فِي ظَلَامِ البَحْرِ .. مسابقة القصة القصيرة بقلم / هزار فاضل الحصيني .. سوريا

الإسم: هزار فاضل الحصيني
الشهرة:هزار
الجنسية: سورية
رقم الموبايل والواتس:

صفحة الفيس تحمل اسمي
الرابط: https://www.facebook.com/hazar.fadelalhusaini?mibextid=ZbWKwL
مجال المشاركة: القصة القصيرة
العنوان:أَحلامٌ فِي ظَلَامِ البَحْرِ

كانَ البحرُ هادئًا نوعًا ما، والشَّمسُ تتسلَّلُ من بينِ الغيومِ،
تارةً تظهرُ أشعَّتُها الذهبيّةَ الخافتةَ وتداعبُ موجَ البحرِ برفقٍ،
وتارةً تواري طلَّتَها باستحياءٍ كعروسٍ في ليلةِ زفافِها، تنظرُ بعينينِ ذابلتينِ للقاربِ الَّذي كانَ يعلو ويرتفعُ بانسيابٍ مع موجِ البحرِ، كعاشقينِ يتهامسانِ بهدوءٍ.
وكانت الأنظارُ شاخصةً نحو الأفقِ البعيدِ حيثُ يمتدُّ شاطئُ الأملِ، ينتظرونَ بفارغِ الصبرِ تلك اللحظةَ التي يضعونَ فيها حقائبَ الأسى والجزع، ومرارةَ الألمِ، ويرمونَ بأثقالِ الحربِ والذكرياتِ القاسيةِ بعيدًا.
فالقاربُ يحملُ بين دفَّتيهِ شبانًا هاربينَ من مصيرٍ قاتمٍ، يتوقونَ إلى الحريةِ.
جلسوا مع بعضِ كبارِ السنِّ وقد بدتْ ملامحُهم أكثرَ جديّةً، يغلبُ عليهم طابعُ الهدوءِ والتريُّثِ، فخطوطُ التجاعيدِ المرسومةِ على وجوهِهم جسَّدتْ قسوةَ الحياةِ، ومن بينِ طيَّاتِها تُظهِرُ ملامحَ قصصٍ عاشوها وحكمًا كانت خلاصةَ تجاربٍ خاضوها وتكبَّدوا عناءَها.
وعلى أحدِ جانبي القاربِ، جلستْ سلمى تحدِّقُ بصمتٍ، أمواجُ البحرِ تسمعُ همساتِها، فدغدغتْ مشاعرَها وداعبتْ الذكرياتِ قلبَها، فانعكاسُ ضوءِ الشَّمسِ الخافتِ على سطحِ البحرِ ذكَّرَها بمشهدٍ من شهرِ عسلِها، حينما علَّمَها زوجُها السباحةَ. وفجأةً عادَتْ من شرودِها ومسحتْ دموعَ الشَّوقِ والحسرةِ، وأوجستْ في داخلِها خيفةً
عندما سألتْ نفسَها هلْ أخطأتُ بهذا القرارِ؟ ثم نظرتْ لطفليها التَّوأمِ وطبعتْ على جبينَيهما قبلةً.
والعجوزُ الجالسُ على المقعدِ المقابلِ كانَ يتابعُ صمتَها وخوفَها، فما عاشَه كفيلٌ بأنْ يشعرَ بالآخرينَ ويقرأَ ملامحَ نظراتِهم ومخاوفِهم.
كانتْ سلمى تحتضنُ طفلَيها بحبٍّ، تمنحهما الدفءَ والأمانَ مثلَ سائرِ الأمهاتِ على هذا المركبِ، فلكلِّ واحدةٍ منهنَّ قصةٌ رسمتْ ملامحَها على وجوهِهنَّ كلوحةِ خريفٍ حزينةٍ.
دنتْ امرأةٌ أخرى منها، ماجدةُ الَّتي كانتْ تجلسُ بجانبِ العجوزِ على المقعدِ المقابلِ، وهمستْ لها: هلْ أساعدُكِ بحملِ أحدِ الطفلَينِ؟
ابتسمتْ سلمى بحذرٍ؛ إذْ حتى في خضمِّ المآسي يبقى العطفُ والرحمةُ جزءًا من الطبيعةِ البشريةِ.
قالتْ لها سلمى بصوتٍ منخفضٍ: شكرًا لكِ هما بخيرُ،
فأجابتها ماجدةُ:
الحربُ تدمِّرُ العمرانَ وتمحو مجتمعاتٍ عن بكرةِ أبيها وتُصوِّبُ أسلحتَها نحوَ الكبارِ والصِّغارِ، لكنْ لا تستطيعُ أنْ تقتلَ المشاعرَ والطِّيبةَ بداخلِنا.
فماجدةُ، التي تكبرُ سلمى بأعوامٍ اكتسبتْ من خلالِ تجاربِها خبرةً لمواجهةِ الصعابِ.
فهي لا تحملُ أطفالًا، ولكنَّها تحملُ أعباء الهجرِ والحرمانِ والظلمِ، يرافقها ابنُها الذي لا تزالُ أحلامُه ورديةً في عمرِ البلوغِ.
شعرتْ سلمى بالطَّمأنينةِ عندما اقتربتْ منها ماجدةُ، وأدركتْ أنَّها ليستْ الوحيدةَ التي تصارعُ تلك الحياةَ القاسيَّةَ، وقالتْ لها: عندما نكونُ تائهينَ في أمواجِ الحياةِ المتلاطمةِ، يرسلُ اللهُ لنا أشخاصًا يخفِّفونَ عنَّا وطأةَ الخوفِ ويمدُّونَ لنا يدَ العونِ.
ثمَّ ابتلعتْ سلمى ريقَها، وأخرجتْ تنهيدةَ الفرجِ، وكأنَّ ماجدةَ أزاحت عنها أثقالًا كانتْ تحملُها على كاهلِها، فسلمى لا ترهقُها رعاية الطفلَينِ التوأمِ، لكنْ أضنتْها حمولة الذكرياتِ مع الخوفِ والقلقِ من القادمِ.
سألتْها ماجدةُ: هلْ أنتِ وحيدةٌ هنا مع طفلَيكِ؟ أينَ زوجُكِ؟
أجابت سلمى، مع شلالاتِ الدموعِ التي بدأت تنهمر من عينيها، إذ كانت محبوسة مقيدة بسدٍّ متينٍ داخلها:
الأمُّ عليها أن تكتم ضعفها وقلَّةِ حيلتها عندما تشعر بالخطر، وتُظهِر قوَّتها خوفًا على أولادها.
فقدَّمتْ لها ماجدةُ منديلًا لتمسحَ دموعَها، وربَّتتْ على كتفِها بكلِّ حنانٍ، وأومأتْ نحوَ الطفلينِ
اللذينَ أصبحا ينظرانِ إلى والدتِهِما ويناغيانِها، مع بسمةٍ علتْ شفاهُهما، ورفرفةٍ جميلةٍ لجسدَيهِما.
فأوقفتْ سلمى تدفق الدمع الَّذي انهمرَ من عينيها بصعوبةٍ، كيْلا يخافَ طفلَاها، فالأمُّ مهما حاولتْ كتمَ عواطفِها،
تبقى مرهفةَ الأحاسيسِ، كيانًا من المشاعرِ تسري في عروقِها كسريانِ الدّمِ.
وأخبرتها بحسرةٍ مرسومةٍ على وجهِها، ونبرةٍ مضطربةٍ كاضطرابِ الموجِ الذي بدأَ لتوِّه: زوجي عندما عَلِمَ بالحربِ التي دقَّتْ أوزارَها، أدرك الخطرِ المحدقِ بنا، شعرَ بالخوفِ علينا، وطلبَ إجازةً من عملِه بالخليجِ، فعادَ أدراجَه لنرافقَه إلى مكانِ عملِه فيحمينا وينقذَنا من الرصاصِ، ونارِ الحربِ المشتعلةِ، حالَ أغلبِ الرجالِ الذين يهتمونَ بعائلتِهم، زوجاتِهم، وأولادِهم، تلك هي الفطرةُ السليمةُ التي حبا اللهُ بها الآباءَ.
ولكنْ بعدَ قدومِه بيومينِ، كنا نجهِّزُ ونرتِّبُ حقائبَ السفرِ، ذهبَ ليُحضرَ عائلتي -والدي وأمي- ليودِّعونا، ونتناولَ العشاءَ الأخيرَ بصحبتِهم ونتباركَ بدعواتِهم، وإذا بقذيفةٍ تدوي على منزلِ عائلتي التي لم يبقَ منها إلا الحطامُ، وذكرياتٌ تلونتْ بالرمادِ، ماتَ الجميعُ لم يبقَ لي أحدٌ!
فارتعشَ جسدها، واهتزَّ البحرُ معها، حتى المركبُ أصبحَ يعلو ويهبطُ بسرعةٍ، وكأنَّه يقولُ لها: كُفِّي عنِ البكاءِ.
وهدَّأتْ ماجدةُ من روعِها قليلًا، وحضنتْها بكلتا يديها مع الطفلينِ، ولا يزالُ العجوزُ يراقبُ.
سألتْ سلمى ماجدةَ، والرجفةُ تعلو شفتيها: وأنتِ ما قصتُكِ؟
كانتْ ماجدةُ تنظرُ إلى ابنِها بكلِّ حبٍّ، وأصبحَ الطقسُ أكثرَ برودةً، وشفتاها ترتعشانِ من الصقيع، ولكنها تماسكتْ بعد سماعِها قصةَ سلمى، تحسبًا لمشاعرِها،
فقالتْ لها بصوتٍ خافتٍ: أنا متزوجةٌ، لكنْ بلا زوجٍ، تركني لقمةً سائغةً عندَ أهلِه، يلهثُ وراءَ شهواتِه،
أفسحَ لهم المجالَ ليقتحموا حياتي ليلًا نهارًا، يتدخلونَ بكلِّ شاردةٍ وواردةٍ، يفترسونَ خصوصيتي، وهو سكيرٌ يقضي وقتَه في العربدةِ والقمارِ، غيرَ مبالٍ بمصائبِ الحربِ.
فالنارُ أصبحتْ تنهشُ بي من الداخلِ والخارجِ، وهو خشبٌ مسندةٌ لا يكترثُ إلا لملذاتِه الشخصيةِ، حتى ابنُه الوحيدُ أصيبَ بطلقٍ ناريٍّ طائشٍ، أثَّرَ على مشيتِه، ولابدَّ له من إجراءِ عمليةٍ لإزالةِ الرصاصةِ التي اخترقتْ عظمَ كاحلِه، والأبُ غارقٌ في حظيرةِ الزنا، ولكي يهنأَ مع شهواتِه، ويتملصَ من إلحاحي بمعالجةِ ولدي، سمحَ لنا بالهجرةِ، على أنْ أتحملَ النتائجَ المترتبةَ على هذا الأمرِ، فأنا لم أكنْ يومًا مع ولدي جزءًا من اهتمامِه أو كيانِه.
سكتتْ لبرهةٍ، وشرَدتْ قليلًا،
ربما تذكرتْ أمرًا جللًا، والدموعُ تتجمدُ على وجنتَيها،
تراقبُ الغروبَ وسطَ الغيمِ الركاميِّ بعينينِ تائهتينِ،
ولدقائقَ سادَ الصمتُ على القاربِ، هدوءٌ مريبٌ، ثم
بدأَ الليلُ يهبطُ كلحافٍ يغطي أجسادَهم المتعريةَ من السكينة، والهدوء والاسترخاء، في وسطِ بحرٍ متلاطمِ الأمواجِ.
فهبتْ عاصفةٌ هوجاءُ باردةٌ لم تلتفتْ لمعاناتِهم، كأنها غاضبةٌ، رافقها زخاتٌ من المطرِ تدغدغُ وجوهَ الأطفالِ النائمينَ في أحضانِ أمهاتِهم، ليعلو الصراخُ المكانَ، والخطرُ يحيطُ بهم من كلِّ صوبٍ،
فتشبَّثتْ ماجدةُ بابنِها، واحتضنتْ سلمى توأمَها بثباتٍ وحنانٍ.
فابتلعَ موجُ البحرِ العاتي الكلماتِ العالقةَ والأحلامَ المؤجلةَ، والقاربَ الذي أرهقته معاناةُ الراكبينَ على ظهرِه.
فالقدرُ مكتوبٌ، والموتُ محتومٌ، والأملُ ما زالَ منشودًا.
وعندَ الصباحِ، بدتْ طيورُ النورسِ تحومُ حولَ التوأمينِ اللذينِ يحركانِ رملَ الشاطئِ بأيديهما الصغيرةِ الناعمةِ، ملاصقينَ جسدَ العجوزِ، الذي التفَّ حولَهما.
أما سلمى وماجدةُ مع ابنِها، غطَّى زبدُ البحرِ أجسادَهم المبللةَ التي لامستْ الشاطئَ، والشمسُ المشرقةُ احتضنتْهم بعدَ طولِ انتظارٍ.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x