ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : استغلال .مسابقة القصة القصيرة بقلم / أحمد عبدالله علي إسماعيل . مصر

أحمد عبدالله علي إسماعيل
جمهورية مصر العربية
صفحة الفيس بوك (أحمد عبدالله إسماعيل)
هاتف ٠١٠٩٩٨٣٤٩٩٤
لينك الصفحة على الفيس بوك
https://www.facebook.com/ahmed.abdullah.18659?mibextid=LQQJ4d
روائي وقاص ومترجم
في الثامن من فبراير ٢٠٢٣

استغلال !

أخيرًا، تنطلق بنا سيارة أجرة من أسفل كوبري أبيس عند مدخل مدينة الإسكندرية متجهة إلى المنشية حيث تقيم أختي الوحيدة مع زوجها، في عصر يوم عاصف من أيام الشتاء الغائمة التي لا تشرق شمسها، وبعد انتظار دام أكثر من عشرين دقيقة حتى يكتمل عدد الركاب الأربعة عشر، والكل يشكو من شدة برودة الجو هذا العام، يركب في الكرسي الأمامي إلى جوار السائق شاب حنطي اللون، قوي البنية، ضخم الرأس، بيضاوي الوجه، حليق الشعر من دون لحية ولا شارب، يرتدي الزيّ العسكريّ؛ يلبس بنطالًا بنيًّا مصفرّ اللون، وقميصًا من الصوف تحت سترته التي يميل لونها إلى اللون الزيتوني المقارب للون البنيّ، وتعلو صدره كلمة الجيش المصري، وبعدما تحركت السيارة بمسافة قصيرة، قال هذا الشاب للسائق بصوت منكسر:
– لو سمحت يا فندم تليفونك المحمول؛ أطلب زميلي.
لم ينظر إليه، واكتفى بقول:
– آسف.
توسل إليه الشاب في إلحاح المضطر وقال:
– دقيقة واحدة.
تأفف منه، وتحدث بنبرة استهزاء وقال :
– كنت أتكلم قبل قليل، وانقطعت المكالمة، وسمعت صوت امرأة تقول : عفوًا، لقد نفد رصيدكم!
على الفور مددت يدي للأمام بهاتفي المحمول وقلت:
– تفضل يا دفعة، معي رصيد بزيادة؛ تكلم براحتك.
التفت إليّ بجسده، ومد يده يلتقط هاتفي المحمول، شكرني بأدب شديد، سمعت شيخًا يدعو، بصوت دافئ تقطر منه الطيبة، له ولمن مثله بكل ما ورد على باله كأنه يدعو لولده الوحيد.
طلب المجند رقمًا يحفظه في ذاكرته، وراح يطلق السباب؛ فتعجبت من حاله، حين شتم ولعن زميله الذي تركه في هذا الجو شديد البرودة، يتضور جوعًا من دون أموال، كصياد عارٍ ضل قاربه الطريق وسط عاصفة!
سألته بعد انتهاء المكالمة عن حاله محاولًا تقديم أية مساعدة رغم إمكانياتي المتواضعة شأن كل الموظفين، الذين لا يملكون من حطام الدنيا سوى المكان الذي يسترهم، والراتب الذي يزور جيوبهم نهاية كل شهر، فالتفت إليَّ وقال:
– أنا مجند قادم من رفح، في مهمة خاطفة إلى قائد المنطقة الشمالية العسكرية، وليس معي نقود!
لم أتردد لحظة في إخراج ما في جيبي، وجدت مبلغاً يسيرًا لم يتجاوز المئة جنيه، ولم أدهش حين تفاعل معظم الركاب مع مبادرتي، منهم من أخرج عشرة جنيهات، ومنهم من أخرج خمسة، حتى اثنين من طلبة المدارس همّوا بالمساعدة، أما الشيخ الذي كان يجلس خلفي فقد اكتفى بالدعوات؛ وجمعت مبلغاً يكفيه للعودة إلى رفح ويسد جوعه وعطشه.
مددت يدي؛ لأسلمه المبلغ، وقبل أن ينطلق لساني فوجئت بمن يربت على كتفي!
التفتُّ بوجهي مستغربًا، ونظرت في الكرسي الخلفي، ظننته شخصًا يعرفني، لكني تعجبت حين وجدت سيدة تشير لي بعلامة الصمت؛ إذ وضعت إصبعها السبابة على فمها، وبدا على وجهها أن لديها ما تريد إخباري به!
أعطتني هاتفها المحمول؛ لأقرأ ما كتبته في رسالة نصية تحمل صرخة مكتومة صامتة:
– انتبه من فضلك؛ ركب هذا الشاب معي أمس في نفس التوقيت، ومن نفس المكان تقريبًا، وردَّد نفس الكلام، وجمع مبلغًا كبيرًا أيضًا ثم نزل على الفور!
يجلس الشاب في الكرسي الأمامي يشطح بخياله، و يمنِّي نفسه، ويتحفز لاستلام المبلغ الذي اقتطعه الركاب من قوت أولادهم، ولعل كل ما يشغله كم جمعت له من أموال.
تطلع لسماع صوتي يجيبه عن هذا التساؤل غير أنه فوجئ بي أقول:
– لماذا لا أذهب معك إلى الوحدة العسكرية التي أتيت إليها؟!
تعجب من سؤالي فبرطم بكلمات غير مفهومة ثم قال مستغربًا:
– ولماذا تذهب معي ؟!
أجبته بثبات:
– مستعد لمرافقتك، وقد اقتربنا منها، ولا يفصلنا عنها إلا دقائق؟
فقال ببطء رافضًا طلبي :
– لا تعطل نفسك.
تبادلت معه الحديث حتى أتبين من كلام تلك السيدة وسألت:
– ماذا تقصد بأعطل نفسي؟
أجاب ببراءة :
– أقصد أسرتك التي تنتظرك بعد يوم عمل طويل، وبخاصة في هذا الجو شديد البرودة.
سأل كأنه يطلب أجرًا عن عمل قام به:
– أين المبلغ الذي جمعته؟
فقلت بصوت حاسم :
– لستَ في حاجة إلى أن تسأل الناس، وتنتظر أن يعطوك أو يمنعوك، كلها لحظات وتطلب من القائد ما تريد، ولا أظنه سيتركك.
أرجعت للركاب ما دفعه كل منهم، ودفعت أجرته من مالي الخاص، ومددت يدي بعشرين جنيهًا فامتنع عن أخذها، ونظر إليّ ووجهه يغلي من الغضب!
أخذت أوصاله ترتعد، على الفور طلب من السائق التوقف، وفتح باب السيارة التي وقفت وسط الطريق، ونزل بعيدًا عن أي وحدة عسكرية!
وصلت أمام العمارة حيث تقيم أختي، وقبل أن ألتقط أنفاسي من تعب الطريق، صعدت شقتها، وقصصت عليها ما حدث؛ فقالت:
– لا تصدق كل ما تسمع، بل صدق نصف ما تراه واترك النصف الآخر لعقلك؛ لأن أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال حاجة!
تواصلت مع الرقم الذي طلبه المجند قبل دقائق من هاتفي المحمول، وتحدثت كأني أعرفه من قبل:
– السلام عليكم.
أجاب بصوت يغلبه العجب:
– عليكم السلام ، تحت أمرك.
سألته في لوم بنبرة حادة أنهره :
– لماذا تركت زميلك من دون أموال؟! ولماذا وضعته في أزمة وأحرجته بهذا الشكل؟!
فقاطعني بسرعة:
– مَن المتصل ؟! ومن زميلي هذا؟!
فقلت في هدوء:
– المجند، زميلك في الجيش، الذي كلمك قبل دقائق من رقمي هذا.
قال في عجب بصوت حاد:
– طلبني فعلًا هذا الرقم لكنه أنهى المكالمة قبل أن أجيب!
سألته وقد بدأت أتأكد من كذب ذلك الشاب :
– هل تقضي مدة التجنيد ؟
أجاب نافيًا:
– لا، لست مجندًا في الجيش.
أوضح بصوت مرتفع كمن يحاول إنهاء نزاع:
– أنا مهندس في شركة كهرباء البحيرة مقيم في منطقة زاوية غزال بالقرب من دمنهور، وعمري ثمانية وخمسون عامًا، سلام عليكم .
أنهى المكالمة وقطع الشك باليقين .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى