الأمل ضعيف
في إحدى ليالي الشتاء الماضية حينما كنت أتمشى على شاطئ (مطرح)، استوقفني صوت امرأة تجلس على كرسي الرصيف الرخامي في أثناء مروري بها، امرأة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، تتحدث إلى أحدهم عبر هاتفها الخلوي، كانت تقول بحرقةٍ:
“لقد مللت من الحياة ومن كل شيء، متى سأموت وأنتهي من عذابي هذا؟انسلت من عينيها دمعة، فمسحتها على عجلٍ خوفًا من أن يلمحها أحد العابرين، ثم أردفت قائلة:
“ما الذي يجعلني أستمر في عيشِ حياة كحياتي؟، إلى متى سأصبر على صفعات الأيام وقساوة الحياة؟، لولا وجود (علي) لعلقت رقبتي على إحدى المشانق وارتحت مني ومن الحياة، أو لرميت بنفسي الآن في بحر (مطرح)؛ لأنجو من عذابي، صدقيني لولا خوفي من الله لفعلتها دون أدنى تردد.”
صمتت وتنهدت، ثم قالت بصوتٍ مخنوق:
“أستغفر الله، ولكني تعبت، ولا قدرة ليّ على تحمل المزيد من العناء، أدعو الله كل يومٍ لأن يمنحني القدرة على التحمل؛ لأجل أن أستمر في هذه الحياة من أجل (علي) فقط، أما أنا فلا فرق بيني وبين الجثث الراقدة في القبور، جسدي فوق الأرض وروحي تحترق في جوفها.”
خانتها دموعها، فانهمرت على وجنتيها دونما رادع يحول من تدفقها، أغلقت الهاتف وأنا ما زلت أرقبها من مسافة ليست ببعيدة، أخذت تتأمل صورة أحدهم في شاشة هاتفها، أظن أنه (علي) الذي قصدته قبل بضع دقائق في حديثها، اقتربت منها بخطوات خفة:
“السلام عليكم.”
“وعليكم السلام.”
ردت التحية بابتسامةٍ ترحيبيةٍ. استأذنتها بالجلوس إلى جانبها، فسمحت لي بالجلوس بكل رحبٍ وسعة، وقد أعطاني ترحيبها ذاك الشجاعة الكافية لأن أبدأ معها حديثا يسد رمق فضولي وتساؤلاتي.
عرّفتها بنفسي قائلة بحماس:
“اسمي (رغد)، من (العامرات)، وأنا كاتبة مبتدئة وشغوفة في كتابة قصص الآخرين، وعلى وجه الخصوص قصص النساء العربيات”.
تنهدت بارتياح:
“اها، إذًا أنتِ ممن ينبشون في أسرار القلوب ويحيكون الحكايات بطريقةٍ تجعل القارئ ينبهر ويحب الحياة بمآسيها”.
ابتسمت، فاسترسلت:
“تقريبًا، يمكنك قول ذلك.”
قالت باقتضاب:
“وأنا (أم علي)، يبدو أنكِ متشوقة لمعرفة أسباب أوجاعي”.
“نعم، ففي الحقيقة أجد أنكِ تملكين جوابا لسؤالي الذي طالما كنت أسأل نفسي إياه منذ أيام عديدة”….
هزت رأسها مستحثة إياي…
“ما الذي يجعل الإنسان يستمر في الحياة رغم انطفاء رغبته بها؟!، أنا أعتذر إن كان سؤالي قد بدا غريبًا عليكِ نوعًا ما، ولكنني من خلال المكالمة التي أجريتها أنتِ والحديث الذي سمعته منكِ بمحض الصدفة، وأصغيت إليه بكل ما أوتيت من فضول، أرى أنكِ تملكين الجواب الذي أرقني لوقتٍ طويل.”
أطلقت تنهيدة عميقة، ثم قالت بألم:
“آه يا عزيزتي، يا لكِ من كاتبة محظوظة، فأنتِ الآن تجلسين بقرب امرأة مثخنة بالموت، امرأة ملتاعة وموجوعة، صدقيني ستخرجين بقصة عظيمة لن يدرك حجم مأساتها سواي.
وضعت يدها اليمنى على قلبها وقالت وهي تضغط على صدرها:
“يبقى الشعور خالدًا هنا، وهنا يستمر الجرح ملتهبًا طوال الحياة وهذا قاس جدا على امرأة وحيدة مثلي”.
“نعم، أفهم ذلك.”
استرسلت، وكأن ما قلته قد شجعها على البوح أكثر:
“لقد فقدت رغبتي بالحياة منذ رحيل زوجي (أبو علي)، لقد كان رحيله موجعًا حد الجنون، انقلبت حياتي رأسًا على عقب، لم يبقَ لي أحدٍ في هذه الحياة سوى (علي). لم تكتمل فرحتي بقدوم طفلي البكر، لقد كان صغيرًا جدًا على قساوة الحياة، يستحق ابني حياة جميلة، ولكنها الحياة لم تحبه قط منذ صرخته الأولى، لم تمنحه الفرصة لاكتشاف جمالها. إنها الأقدار التي لا مفر منها، إن ابني (علي) مصاب بمتلازمة داون، يقاسي قلب صغيري الوحدة كقلب أمه تمامًا، الوحدة متعبة لقلب إنسان بالغ، فكيف بقلب طفل صغير كقلب وحيدي (علي)؟!
صمتت قليلاً ثم قالت:
“جواب سؤالكِ يا عزيزتي (رغد)، أننا نحن البشر حين نفقد رغبتنا تجاه الحياة نستمر في عيشها لأجل من نحبهم فقط،لأجل أن نحقق رغباتهم لا أكثر من ذلك، نتشبث بهم ويتشبثون بنا، نصير مساحتهم الآمنة وقوتهم الوحيدة في الحياة، ويصيرون هم قوتنا أيضا بطريقة ما، نمتص أوجاعهم ونستمد الصبر من ضعفهم، نصارع لأجلهم الحياة بكل ما أوتينا من قوة وعزم، نستمر لأجل أن تبقَى قلوبهم قيد النبض والإحساس بها.
إنني أتنفس لكي أملأ رئتي صغيري بالحياة، وأتناول الطعام لأسد جوعه، وأضحك ليفرح قلبه، وأقبل وجه الحياة البشع برضوخ تام لتمنحه الحب والعطف؛ فيفرح قلبي، أنا وصغيري (علي) مرتبطان ببعضنا، روح واحدة في جسدين منفصلين. حينما تموت أحلامنا ونفقد رغبتنا تجاه الحياة؛ فإننا نجاريها لأجل من نحبهم فقط، يجبرنا أحباؤنا على حب الحياة وتجبرنا الحياة على التخلى عن كل شيء من أجلهم، الحب وحده من يحركنا ويدفعنا نحن (الإنسانيين).”
سألتها جادة:
“إذا، كيف لامرأة قوية مثلك أن ترغب بالموت؟”
شهقت بدهشة: “قوية؟!”
“نعم، أراكِ امرأة قوية لا سقف لها ولا حد، امرأة لا تهزم ولا تخشى من الحياة سوى ما تتمناه، أقصد (الموت).”
ضحكت بضيق، ثم قالت بصوت بغصة:
“لا لا، لا تصدقين ما سمعته مني بخصوص رغبتي في الانتحار، فأنا لا أملك الجرأة للإقدام على خطوة كتلك، نحن نتمنى الموت ولكننا نخاف منه، تجتاحني أفكار سوداوية كتلك في أشد لحظاتي ضعفا؛ لذلك أنا أتفوه ببعض التفاهات أحيانا، أرغب بالبقاء حية ما شاء الله لي أن أفعل، تمسكت بالحياة من أجل صغيري، ومن المستحيل أن أرتكب ذنبًا كذاك.”
قلت جادة:
“لا تتفوهين بالتفاهات أرجوكِ، لا تتفوهين بأمور قد يخطفها القدر من فمكِ ليحققها من دون رغبة، فعليه منكِ بأن تتحقق.”
ابتسمت، أو ربما جمعت ما تبقى من ملامح ابتسامة قديمة وقالت:
“لا تخافي عليّ يا (رغد)، فمنذ وفاة زوجي وأنا أعيش الحياة باقتضاب، بكلمات معدودة وحروف قليلة، متثاقلة ومحسوبة.”
صمتت، وصمت بدوري طويلا.
نظرت إلى شاشة هاتفها ثم قامت من مكانها فزعة كمن تذكر شيئًا، استأذنتني بالذهاب للتسوق من سوق مطرح القديم، قالت: إنها تود أن تبتاع من رائحة الوطن (اللبان)؛ لتشم عبق الماضي وتنتشي بدفء الذكريات وحكايات الأجداد.
ودعتها بالأحضان وبقبلة أولى، ولا أدري إن كانت ستكون الأخيرة أيضا.
لم يمض على وداعنا سوى لحظات قليلة حتى صم آذاني صوت كبح فرامل السيارات بطريقة مفاجئة قبل أن يتناهى إلى سمعي صوت ارتطام مدو لجسمٍ ما على صلابة الأسفلت، علا ضجيج المارين، ازدحام، صراخ، أناس قد تجمعوا حول شيء ما، اقتربت أكثر بخطوات ثقيلة وأنفاس متسارعة، اختلست النظر من بين الجموع وإذا (بأم علي) قد سقطت مغشيا عليها وسط بحيرة من الدماء، صعقت ما أن رأيتها بحدقتي المتسعتين تلفظ أنفاسها بهدوء، مبقية عينيها على اتساعهما الذي بدا في تلك اللحظة أمرا جليلا، هرعت سيارة الإسعاف إلى المكان، جمدت في مكاني من هول المنظر، فقدت الإحساس بكل ما دار حولي، لا أذكر كم من الوقت قد مضى حتى انتشلتها سيارة الإسعاف! كل ما أذكره هو المشهد المهيب للناس من حولي وهم يتناقصون ويرحلون متمتمين بغصة:
“الأمل ضعيف، الأمل ضعيف.”
*******
الاسم: بلقيس بدر
التلفون: ٩٦٧١٨٨٠٢
البلد: سلطنة عُمان
البريد الإلكتروني:
حساب فيسبوك:
https://www.facebook.com/profile.php?id=100065730126002&mibextid=LQQJ4d