ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : الارتقاء . مسابقة القصة القصيرة بقلم / بوخلاط نادية . الجزائر

الارتقاء

قلبت عيناها المتعبتين تلك القاعة ثم نظرت إلى سريرها الذي ظلت حبيسته منذ شهرين كاملين ، ثم التفتت إلى تلك الوجوه المحيطة بها ، كانت شفاهها ترتجف و هي تبحث عن كلمات ، أمسكت بيد شقيقتها صباح و قالت بنبرة خافتة متوجسة :
” ما هذه العتمة المحيطة بي يا صباح ؟ “
“عتمة، عن اي عتمة تتحدثين ؟، لقد أشرق الصباح منذ ثلاث ساعات
“بلى إنني أرى عتمة حولي قلت لك، هيا افتحي الستائر ارجوكي ، أنيري الغرفة، لقد سأمت هذا الجو المعتم المحيط بي”
انتصبت صباح و همت تتظاهر بفتح ستائر النافذة الكبيرة التي توسطت الغرفة و عادت إلى مكانها محاولة إخفاء دمعة عصية انسابت مرغمة على وجنتيها لأنها أدركت في تلك اللحظة أن شقيقتها تنازع الموت، موتا بات وشيكا بعدما هزمها السرطان و نهش جسمها الضعيف الذي لم يعد يقوى على المقاومة …
ساد الوجوم و الصمت المطبق في الغرفة لأن الكل كان يعلم تلك الحقيقة التي اخبرهم بها الطبيب المتابع لحالتها، خسرت “منال” آخر معاركها أمام هذا المرض اللعين ، و رغم أنها كانت متمسكة بالأمل إلا أن سطوة المرض كانت أقوى
كانت تقاطيع وجهها متغيرة ، و برودة يديها و بياض شفتيها يدلان أن موعد رحيلها عن هذه الدنيا صار وشيكا ، و كان الكل يحاول أن يظهر قويا أمامها ، مشهد لم تحتمله والدتها التي غادرت الغرفة متحججة برأية الطبيب المشرف عن حالة ابنتها
صمت الجميع حين سألتهم بشكل مباغث قائلة : ” ما هي المسافة بين الموت و الحياة ؟، أم هو عبور إلى عالم نجهله لذا نحن نخشى الرحيل ؟”
يبدو سؤالك فلسفيا رد شقيقها “عمر ” و قد احمرت عيناه من فرط البكاء ، كانت منال الأقرب إليه من بين شقيقاته الثلاث ، و كان في صمته يتوسل للخالق راجيا أن يمنحه القوة للتحمل و الصبر على فراقها ، كثيرا ما كان في صمته و في كل زيارة لها في المستشفى يلعن الأقدار التي جعلته و أجبرته أن يعيش هكذا موقف ، لكن هناك صوت داخلي كان يصرخ في أعماقه و يقول له أنت رجل و الرجال لا ينهزمون أمام الأقدار ، و كانت القوة هو ابرز ما كان يحتاجه في هذه اللحظة بالذات
الفراق كان أصعب الأشياء و أمر التجارب التي يمكن أن يمر بها الإنسان ، رغم ان الموت هو قدرنا جميعا لكن أن يختفي صديق أو أخ و يرحل عن هذه الدنيا أمر صعب و يخلق في ذواتنا كثير من الحزن و الانكسار
كسر شروده حين علقت منال ردا على أجابته : اجل اعلم أن سؤالي فلسفيا و لأنني اعلم انك تحب الفلسفة تعمدت في طرح هذا السؤال عليك ، لكنك لم تجبني
هو كما قلت الموت هو انتقال من حالة الوجودية إلى مرحلة العدمية ، لكن لا احد يمتلك الحقيقة المطلقة عن المكان و لا كيفية الانتقال ، يرى البعض ان الموت هو ارتقاء الأرواح و فناء الأجساد
أحسنت ، إجابتك الآن أكثر إقناعا يا أخي ، فعلا ننتقل من عالم الأحياء إلى عوالم الفنات المجهولة ، تصعد أرواحنا للسماء و تفنى أجسادنا في التراب ، لذا كانت أمي تقول لي دوما ” الروح عزيزة و غالية” ، سكتت لحظة لتضيف بمجهود بانت فيه معالم الإرهاق :” يكفي أنني عشت سعيدة محبوبة من قبل قلوبكم التي احتوتني في الفرح و في المرض ، تعبتم من اجلي و رافقتم أحلامي الصغيرة ، سهرتم أيام دراستي ، و شجعتموني على التفوق و التحصيل العلمي ، دعوتم الله سرا و جهرا من اجلي ، تأكد أنني سأكون معكم و أرقبكم من أعلى ، سيكون الأمر ممتعا حقا ، سأرافقكم في كل أعمالكم و أعيش يومياتكم ، و لدي قناعة أن الله لن يتخلى عني و في حضرته سأكون محمية ، سيختفي الألم ، و تنتهي عذاباتي مع جلسات الكيماوي ، بعد آن صرت إلى ما أنا عليه لا جدوى أن أواصل الإصرار على الحياة
التفتت إلى وجوه إخوتها و كأنها تهم بتوديعهم بابتسامة ذابلة ، لمحت والدتها آتية نحوها مدت لها يدا مرتجفة أتعبها وخز ابر المصل فازرقت
أمسكت الأم المكلومة بيد ابنتها التي كانت باردة كقطعة جليد و قالت لها بصوت خافت ، أرغب في قول كلمة ، ربما هذه الكلمات ستكون آخر حديث لي معكم ، لكن أريد منكم وعدا بتنفيذ كل ما سأقوله بالحرف الواحد
حينها أدرك الجميع ان الموت صار قريبا جدا مما كانوا يتوقعون ، أجهشت ا والدتها بالبكاء و لم تتمكن من امتلاك الشجاعة للصمود و هي ترى ابنتها المرحة ، عاشقة الرسم و صديقة الجميع تخطف بين يديها لترحل إلى الأبد
اسمعوا جيدا قالت “منال” بين شهقات الموت : “لا أريدكم ان تحزنوا و لا ان تقيموا عزاءا بعد رحيلي ، لا يجب ان يظل الحزن في قلوبكم لأننا كلنا سنلتقي في الجنة ان شاء الله ، ابتسموا و انتم ترونني أرحل عن عالمكم ، لا داعي للنحيب لأن الموت قدرنا جميعا ، اذكروني في الأشياء الجميلة ، اعتنوا بقططي و بلوحاتي ، و وزعوا الصدقات على روحي ، اعرف أن الله سيبدل ألمي راحة ، فالموت سيحرر جسدي من الآلام ، تعبت من هذا المرض و لم اعد اقوى على الصمود ، سأرحل الى عالم ارحم لا مرض فيه و لا دموع ، ألبسوني ثوبي الأبيض الذي ارتديته يوم تخرجي من الجامعة ، و ضعوا مصحفي الصغير عند راسي ، تذكروا أنكم كلما نظرتم إلى السماء سترون وجهي باسما يتمنى لكم الخير و السعادة إلى أن نلتقي ……”
على هذه الكلمات فاضت روحها و غادرت عالم الألم و المرض وسط بكاء الجميع و قلوبا أحبتها فمدتها بالحنان و العطف .

الاسم و اللقب / بوخلاط نادية
البلد/ الجزائر
السن 52 سنة
رقم الهاتف / 00213697301237
رابط الصفحة/
https://www.facebook.com/loubna.yara.75
نوع المشاركة / قصة بعنوان ” الارتقاء”

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى