ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : الجانب الآخر . مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمود السيرة . مصر

مهرجان همسة للآداب والفنون

(القصة القصيرة)

الاسم : محمود أحمد إبراهيم علي

اسم الشهرة : محمود السيرة

الدولة : مصر

موبايل : 01004022870-01092589471

واتساب : 01092589471

صفحة الفيسبوك : https://www.facebook.com/mahmoud.seyra

اسم القصة : الجانب الآخر

الجانب الآخر

أعدَّ الفتى –ذو السبعةِ عشر ربيعًا- ثيابَه، طيَّبها بعطرٍ قد ابتاعه خصيصًا لذلك اليوم. أخذ يجولُ ببصره في حُجرته متوسطةِ الحال، يُمعنُ النظرَ في كل ما احتوته من أثاثٍ؛ سريرِه الذي قلَّما نام فوقَه من كثرة ما يؤرقُه، خزانةِ ملابسِه التي احتفظ فيها بملابسِ أخرى جنبًا إلى جنبٍ مع ملابسه، بعضها لأمِّه التي لم يرها إلا من خلال صورتها التي عُلِّقتْ في بروازٍ خشبيٍ أنيقٍ فوقَ سريرِه، وبعضها لأبيه وأخيه الذَين كانا حتى وقتٍ قريبٍ هُم كلُّ أهلِه – أو من تبقى من أهلِه-.

على الحائط، وَثَبَتْ عيناه سريعًا على بعضِ الصورِ المحفوظةِ ببراويزَ عُلقت في أماكنَ مختلفةٍ على جدرانِ الحجرةِ الأربعةِ، كلُّها لأشخاصٍ تتفاوت أعمارُهم بين الشيخوخةِ والطفولةِ.

كانت عيناه تقفُ ع الصورةَ الواحدةِ لجزءٍ من الثانيةِ، هو يعرفُها، يحفظُ ملامحَها، لكن بدا وكأنَّه يستودعُها سرًا من أسرارِه الكثيرة.

دخل حمَّـامَ الحجرةِ الصغيرَ، اغتسلَ ولم يُطِلْ في غُسلِه، تطيَّبِ هو الآخرُ بنفسِ العطرِ الذي طيَّب به ملابسَه، ارتدى جزءًا من ملابسِه، ثم ارتدى شيئًا ما على خَصرِه و أحكمَ ربطَه وتأمينَه ثم رَبَّتَ عليه برفقٍ،  لبسَ قميصَه وسروالَه ثم ألقى نظرةً سريعةً على وجهِه في المرآةِ.

خرج مسرعًا، ثم أخذتْ السرعةُ في التناقصِ تدريجيًا عندما خرجَ إلى الشارعِ، تثاقلتْ قدماه، لا لوهنٍ أصابَه، بل ليفعلَ ما فعلَه بحجرتِه، أخذَ يتأمَّلُ كلَّ ما في طريقِه؛ الأشجارَ، البيوتَ، المتاجرَ، الأشخاصَ، حتى الأحجارِ الملقاةِ على جانبي الطريق، كلُّها نظراتٌ سريعةٌ، أحيانًا حزينة وأحيانًا أخرى باسمة، هو أيضًا يعرفُها جيدًا ولكنَّه أخذَ يُحيِّيها و يودعُها من أسراره.

مرَّ على أحدِ أصدقائِه، اصطحبَه في سيارتِه واتجها إلى صديقٍ ثالثٍ الذي أجرى مكالمةً تليفونيةً سريعةً نصفُ كلماتِها باللغةِ العربيةِ والنصفُ الآخرُ بلغةٍ أخرى هو يعرفُها جيدًا.

أتَتْ سيارةٌ حديثةٌ يقودُها شابٌ ملامحُه معتادة لهم رغم كونِها مختلفة عن ملامحِهم، اتخذَ الفتى مقعدَه، أسندَ رأسَه للخلفِ وأغمضَ عينيه كما أمرَه الشابُّ قائدُ السيارة.

تسارعتْ الخواطرُ برأسِه، بعضُها من ذكرياتِ الطفولةِ القريبةِ، وبعضُها من وحي بعضِ الحكاياتِ التي رواها له أبوه وأخوه عن أمِّه وكثيرٍ من أهله الذين رحلوا في ظروفٍ مختلفةٍ متشابهةٍ.

الحكاية التي لا ينساها أبدًا بكل التفاصيل التي حُكيت له هي لحظاتُ رحيلِ أمه، ابتسامتُها في وجهه الصغير، وقُبلةٌ حانيةٌ بين عينيه النائمتين وهي تكتمُ آهاتٍ لجرحٍ غائرٍ أصابها نتيجةَ عمليةِ قتلٍ مُدبَّرةٍ متوقَّعةٍ.

انتبه للحظةٍ، اعتدلَ في جِلسته على المقعدِ الأمامي للسيارةِ التي تُقِلُّه لوجهته، أسندَ رأسه ثانيةً إلى المقعد و أسلمَ عقلَه إلى خواطره وذكرياته.

بعدَ وقتٍ ليس بالبعيد توقفت السيارة، وأشارَ له قائدُها بالنزولِ، فهو قد أتمَّ مهمتَه التي تقاضى أجرَها كاملًا قبل بدءها، تبادلا ابتساماتٍ صفراءَ وهو يغادرُ السيارة، ولم يكد يضعُ قدميه على الأرض حتى طارتْ السيارةُ وغابت عن ناظريه.

كان يقف على جانبِ الطريقِ وفي مواجهته على الجانبِ الآخر تلك البنايةُ التي يقصدُها.

أخذَ يتقدمُ بخطىً ثابتةٍ غيرَ آبهٍ بما حولَه من ضجيجِ المدينةِ، أصوات السيارات، هتافات المارة، نداءات الشباب بعضهم بعضا، حتى صوت الموسيقى الصاخبة المنبعث من البناية التي يتجه إليها، كل ذلك لم يستطع أن يُخرجَه من حالة التركيز التي -بإرادته- آثر أن يعيشَها.

واصـلَ تقدمَـه وهو يتحسَّسُ بحذرٍ ملابسَه فوق خصره، وفي أثناء تقدمِه تصارعتْ الأفكارُ والخواطرُ في رأسِه ثانيةً، ومرَّتْ أمامَ عينيه ذكرياتٌ قريبةٌ، وكانت لقلبه دقات كأنها النواقيس، لم يستطع سماعَها إلا هو.

واصـلِ تقـدمَه، توقفت أمام عينيه ذكرى ذلك اليوم الذي شهد فيه مصـرع أبيه وأخيه، لم يحكِ له أحد تلك الواقعة فهو قد رآها رأي العين، بل عاشها بكل تفاصيلها، لم تستطع السنـوات القليلة التي مرت أن تنسيه تلك التفاصيل.

كان هو وأخوه يحتميان بظهر أبيهما ويُلقيان ما بأيديهما من أحجارٍ إلى أهدافها مثلما يفعل أبوهما في مواجهة من اعتادوا مواجهتهم، وفي لحظةٍ ما حاولوا جميعًا الفرار، نجح الصبي –ساعتها- في ذلك ، لكنَّ أباه أبصرَ أخاه وهو يتعثر فرجع إليه واحتضنه وجعل من جسدِه درعًا واقيةً له، أخذ الأبُّ يصرخُ ويستغيثُ كي يتركوا ولدَه، كانت عيناه تركضان بين ولدِه الذي تحتَه وبين ولدِه الذي اختبأ مع من اختبأوا، وبنفسِ الابتسامةِ التي ودَّعتْه بها أمُّه – التي لم يرها- ودعه أبوه عندما أيقن أن لا مفر من المصير المحتوم، رأى أصابعَ أبيه وهي تكاد تخترق جسدَ أخيه خوفًا من فراقه، ونجح الأب في ذلك، فلقد صار جسدُه وجسدُ ولدِه جسدًا واحدًا، بل جثةً واحدةً غارقةً في بركةٍ من الدماء وحولَهما أكوامٌ من الحجارة وأكوامٌ من طلقاتِ الرَّصاص، بدت جثتُهما أشبه بالمصفاة.

واصـل تقـدمَـه، لم يستطعْ منعَ الدمعاتِ أن تترقرق في عينيه، وعندما همّ بمدِّ كفِّه ليمسحَها وجدَ دقات قلبه قد علا صوتُها وازداد عددُها، ووجدَ نفسَه أمامَ البنايةِ التي يقصدُها، لم تُكملْ يدُه طريقَها إلى عينيه، وراحت بحذرٍ شديدٍ – وللمرةِ الأخيرةِ – تمرُّ على خصرِه وبطنِه ، ثم دخلَ البنايةَ.

وما هي إلا دقائق معدودة حتى كان هذا الخبر في جميع وسائل الإعلام:

“وقع منذُ قليلٍ انفجارٌ عنيفٌ هزَّ أرجاءَ تلِّ أبيب، أسفرَ عن مقتلِ خمسة عشر مستوطنًا، وإصابةِ العشرات، واستشهادِ فتى فلسطيني منفذ العملية”.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى