نادين فادي محمود ( نادين نشبت)
قصة : الخزانة العتيقة
https://www.facebook.com/nafa0n?mibextid=ZbW
الليل كان ثقيلًا، وكأن الزمن قد تراخى بين جدران البيت المهدم. الصمت يعم المكان، فيدخل إلى الروح كما يدخل الهواء البارد عبر الشقوق.
في زاوية الغرفة المظلمة، جلست “رحاب” على حافة سريرها، يديها تمسك بقلم قديم تنقش به بعض الكلمات على صفحات دفتر يومياتها. الضوء الخافت لشمعة صغيرة كان يكاد يهمس، يعكس ظلالًا طويلة على الجدران التي بدت وكأنها تحمل أسرارًا قديمة.
ثم… توقفت.
عيونها انزلقت ببطء نحو الحائط المقابل. هناك، في الزاوية، رأته.
ظل. لكنه لم يكن مجرد ظل عابر. كان يتحرك. ببطء، بثقل، وكأنما يراقبها. كان كبيرًا، طافيًا فوق الجدار، ثم يتقلص إلى صورة غير واضحة، ثم يعود ليتشكل من جديد.
تسارعت دقات قلبها، محاولةً إقناع نفسها بأن هذا مجرد خداع بصري. لكن الشيء الذي كان هناك لم يكن خيالًا. لم يكن ظلاً عاديًا. كان كائنًا. كان يقف هناك فقط ليشعرها بوجوده.
شعرت بشيء غير طبيعي يزحف داخل الغرفة. الهواء أصبح ثقيلًا، وكل شيء حولها بدأ يهتز خفيفًا. حاولت أن تدير وجهها بعيدًا، لكن عينيها كانت مغلقةً على الظل، وكأنها لا تستطيع الهروب.
في صباح اليوم التالي، كانت الغرفة هادئة، كما لو أن شيئًا لم يحدث. لكن رحاب لم تستطع التخلص من الرعب الذي اجتاحها في تلك اللحظات.
“أمي، هناك شيء غريب في غرفتي… رأيت ظلًا يتحرك.”
والدتها، التي كانت تعتني بالخبز على الطاولة، توقفت فجأة. نظرت إليها، ثم انتزعت أنظارها عن عينيها في توتر.
“لا تَقلقي، يا ابنتي. هذا البيت قديم جدًا، وأشياء كهذه ليست غريبة فيه.”
لكن الكلمة الأخيرة، وبصوتها الغريب، كانت تثير الشكوك في قلب رحاب. تردد شيء في حروف الأم، وكأنها كانت تخفي شيئًا في أعماقها، شيئًا عرفت أن رحاب لا يجب أن تكتشفه.
كانت الأيام تمضي، والأصوات الغريبة أصبحت جزءًا من حياتها اليومية. همسات خافتة كانت تأتي من مكان ما داخل البيت، تتسلل إلى أذنها وتختفي قبل أن تتمكن من تحديد مصدرها. أحيانًا، كان اسمها يُنادى من بعيد، في الظلام، من غرفة فارغة أو من ردهة مهجورة.
في تلك اللحظة، شعرت بشيء غريب يدفعها للبحث. شيء في قلبها كان يخبرها أن ما يحدث ليس مجرد خيال أو هواجس. هذا البيت يخبئ شيئًا أكبر من أن يُفسر.
أثناء تجوالها في الطابق السفلي، في زاوية مهملة من الممر، لاحظت خزانة خشبية قديمة لم ترها من قبل. كانت ضيقة، مختبئة خلف ستارة متسخة، وكأنها كانت مخفية عن عينيها عمدًا. لم يكن هناك شيء مميز في الخزانة، سوى طبقة غبار سميكة تغطي سطحها، لكن شيء ما فيها أثار فضولها.
بينما كانت تفتح أبواب الخزانة، اكتشفت وراءها بابًا صغيرًا، محاطًا بإطار خشبي قديم. الباب كان ضيقًا، يبدو أنه لم يُفتح منذ سنوات طويلة.
دون تفكير، مدّت يدها نحو المقبض البارد وفتحته. كان هناك درج ضيق يصعد في الظلام. شيء في داخلها كان يقول إنه يجب عليها الصعود.
تسلقته بحذر، قلبها يخفق في صدرها كطائر محبوس. كان الظلام يحوطها من كل جانب، وكل خطوة كانت تجعل الأصوات حولها تزداد وضوحًا، كما لو أن المكان كان يصرخ في وجهها.
عندما وصلت إلى الأسفل، اكتشفت قبوًا قديمًا مظلمًا. القبو لم يكن خاليًا، بل كان يحتوي على مرآة ضخمة، بعرض الجدار. سطحها كان مشوشًا، ضبابيًّا، وكأن شيئًا غير طبيعي يلتف حوله. لم تكن المرآة عادية. كانت تلتهم الضوء، وتحيط بها هالة من الظلال.
اقتربت منها بحذر، حتى صار وجهها في مواجهة الزجاج. في البداية، كان هناك فقط انعكاس لها، ولكن شيئًا ما بدأ يتغير.
كانت الظلال في المرآة تتحرك. ببطء، تتداخل مع بعضها البعض، ثم تنفصل لتأخذ أشكالًا غير آدمية. شيء مشوه، غير طبيعي، كان يتحرك داخل الزجاج، يقترب منها شيئًا فشيئًا.
ثم، فجأة، خرج الصوت.
“أخيرًا… وجدناك.”
كان الصوت عميقًا، رنانًا، وكأن الأرض نفسها تردد كلماته. كانت كلماته تُشعِرها أن هذا المكان كان يخصها، وأنها كانت جزءًا من شيء أكبر من مجرد هذا البيت.
كانت عيون رحاب تتسع، والشعور بالعجز كان يكتسح جسدها. الظلال التي بدأت تخرج من المرآة كانت أكثر وضوحًا الآن، تتراقص حولها كما لو كانت جزءًا من كابوس حي.
الظل الأول خرج، وامتدت يده الغريبة نحوه. كانت يده طويلة، مظلمة، تشبه يد مخلوق لا ينتمي لهذا العالم. بعده، تبعه المزيد. أصبح القبو مليئًا بهذه الكائنات المتشابكة، التي تتنقل كالأشباح داخل الزجاج المكسور للمرآة.
ثم، بينما كانت تحاول الهروب، اندفعت يد واحدة فجأة، أمسكت بها من كتفها، وجذبتها إلى الوراء. كانت قبضتها باردة كالجليد، لا حياة فيها، ومع كل ثانية كانت يده تثقلها، وكأنها تعود إلى شيء غامض تحت الأرض.
“لا!” صرخت بألم، لكن الصوت لم يخرج منها كما توقعت، وكأن الكلمات سقطت في حفرة عميقة داخلها، ولم تجد طريقًا للعودة.
كل شيء بدأ يتشوه من حولها. الجدران بدأت تتبدل، وتذوب كالشمع في النار. كانت تذوب أمام عينيها، كأن المكان نفسه كان يتقلب معها، يبتلعها في دوامة متواصلة. أصبح الزمن غير محسوس، والأبعاد أصبحت لزجة، مرنة.
“هذا المكان لنا… وستبقين هنا إلى الأبد.”
كانت الكلمات تنبثق من الظلام، تتردد في آذانها، لكنها لم تكن بحاجة لتفسيرها. كانت تعرف ما تعنيه. كان الصوت نفسه يتردد في أذنيها، كأنه موجه إليها من مكان بعيد. ظلها، الذي كان يراقبها في الزمان والمكان، أصبح الآن جزءًا من هذا المكان المشؤوم.
الظلام ابتلعها ببطء، كما لو أن الجدران نفسها انفتحت لتستوعبها بالكامل. كان كل شيء يختفي، ويغرق في السواد، ليتلاشى في أعماق الظلام بلا عودة.
ثم اختفت المرآة، كما لو أن العالم حولها أصبح لحظة مستحيلة، غير قابلة للرؤية أو الفهم. كان كل شيء ساكنًا، وكأن الوقت قد توقف في تلك اللحظة.
في اليوم التالي، حين دخلت العائلة إلى البيت، لاحظوا الباب المؤدي إلى القبو مفتوحًا. قلب والدتها ارتجف عند رؤيته، لكن العيون التي فتحت تبحث عن رحاب لم تجد شيئًا.
القبو كان فارغًا. لا شيء في الداخل سوى الغبار. الجدران كانت كما هي، لا أثر لأي شيء غريب. القبو لم يتغير، وكأن المكان لم يتجاوز الزمن الذي توقف فيه.
ولكن مع مرور الأيام، بدأ الغموض يلتف حول هذا البيت المهدم. الإعلان عن “البيت للإيجار” ظهر في الصحف المحلية. كان النص يبدو عاديًا، لكن هناك شيء في الحروف كان يشي بشيء غير طبيعي. كأن التاريخ يعيد نفسه، كأن الخطوات التي تركتها رحاب في البيت كانت مجرد بداية لشيء أكبر.
“أين رحاب؟” كانت والدتها تسأل نفسها بصوت منخفض، لكنها لم تجد إجابة. في هذا المكان، لا شيء يبدو كما هو. كان البيت، بكل تاريخه الغريب، لا يزال يخبئ في جدرانه الأسرار التي لن تُكشف أبدًا.
وبينما كان الإعلان يعرض تفاصيل جديدة للبيت للإيجار، كانت الأعين التي قرأت الإعلان تعرف شيئًا لم تجرؤ على التفكير فيه. هذا البيت لا يرحم.