ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : الخميس المُعَظَّم ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمد أبوالخير ستو ..مصر

قصة قصيرة : الخميس المُعَظَّم
الكاتب/ محمد أبوالخير ستو
الدولة: مصر
الهاتف: 01127407808
فيس بوك: https://www.facebook.com/mohamed.seto.946
ــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ

الخميس المُعَظَّم

كنا في مطلع الخريف، حين أخبرتني أمي ذات ليلة باردة بأن موعد التحاقي بالعام الأول الابتدائي قد اقترب، وعليَّ الاستعداد من الآن لخوض حياةٍ جديدة مع عالمٍ جديد.. ولأنني كنت طفلاً مدللاً وحيداً لأبي وأمي، كنت أظن أن أمي تقصد بالمدرسة الابتدائية نُزهةً جديدة أو فُسحةً برفقتهما؛ تخيلتها رحلة قصيرة نعود منها مع أكياس ممتلئة بالحلوى. لم أكن أعرف أن خارج أبواب بيتنا عالمًا يحمل في طياته ما لم أره وما لم أكن مستعدًا له.

وجاء اليوم الموعود، وألبستني أمي قميصاً وبنطالاً وحِذاءً جديداً، فعاودتني ذكريات العيد، ومضى بي أبي إلى المدرسة وأنا في قمة السعادة، أو في قمة البلاهة، أو في قمة عدم الإدراك، أو في أي قمة طفولية حمقاء!

لم تكن المدرسة بعيدة عن منزلنا، وكانت تُسمى “مدرسة الرواد الابتدائية”.. وقد وقع عليها الاختيار لقربها من البيت، وكانت تتكون من فناءٍ واسع ودورين، بكل دور ثلاث حجرات؛ وكان الدور الأول يحتوي على فصلين وحجرة الناظر.

استقبل الناظر أبي بالاحترام والإجلال، ولاطفني في حضوره برقة، وأطرى نظافتي وجدة ثيابي، فآنست إليه واستبشرت به خيراً! وتم إثباتي بين تلاميذ المدرسة في دقائق، ودفع أبي المصروفات، وهو يقول لي:
– مبروك يا عادل، لقد أصبحت تلميذًا عظيمًا الآن!

وعاد أبي من حيث أتى، وقد تعلقتُ بيده بعد أن استشعرت خوفاً مُباغتاً وهو يغادرني، فاقترحتُ عليه أن يعود بي! ولكنه ضحك ضحكته الرنانة، وقال وهو يومئ بأصبعه إلى التلاميذ:
– إليك أهلك الجُدد!

وقفت على كثب أمام الفناء الواسع في ارتباكٍ لم أعانِ مثله من قبل، وتولاني الندم، ندم القدوم إلى هنا بسعادة الصباح وفرحة العيد!

نظرت إلى التلاميذ المُتفرقين بخوفٍ وحياء، وتمنيت ألا تقع عينٌ منهم عليَّ.. لكن أناقتي وجدة ثيابي لفتتا إليَّ الأنظار، فغضضتُ بصري في خجلٍ شديد، وتساءلت في نفسي:
– إلى متى يطول ذلك العذاب؟
بعد لحظات، اقترب مني غلامٌ وحيَّاني، ثم وقف معي كأننا أصدقاء، وسألني بغير مناسبة:
– هل أبوك الذي جاء بك؟
فهززت رأسي دلالة على الإيجاب، فعاد يسألني:
– ماذا يعمل؟ وما اسمك؟
كنت في حالة من القلق والتوتر والغلام يستجوبني، بيد أنني تظاهرتُ بالتماسك، وأجبته بفخرٍ:
– بابا بيشتغل مهندس.. وأنا اسمي عادل.

كان أبي يعمل مهندساً في شركة كبيرة تقتضي دوماً غيابه عن المنزل، فكان يسافر خارج القاهرة ما يزيد عن نصف العام تقريباً، لذا كانت علاقتي مع أمي فريدةً من نوعها، فكانت تخاف دوماً عليَّ إلى حد المرض، عكس أبي الذي طالما وبَّخها لهذا الخوف المُبالغ فيه!

لما التزمت الصمت والجمود بعد إجابتي المقتضبة، غادرني الغلام، وانضم إلى غيري من الرفاق، ولعله ضاق بالرفيق الجديد ذات الوجوم والسكوت.. اشتدت بي الوحشة وسألت نفسي:
– ترى هل أستطيع الاندماج مع أولئك الغلمان؟ هل يمكنني حقاً أن ألاعبهم أو أصاحبهم؟
تقبض قلبي خوفاً، وكنت في حال من الضيق الشديد، حيث لو واتتني الشجاعة على الانسحاب من موقفي والعودة إلى البيت لفعلت!

ودق الجرس فأنقذني من أفكاري، وأوقفونا صفاً، وأدخلونا الفصول. راح المدرس يفتتح العام الدراسي الأول بالإرشادات التقليدية الخاصة بالنظام وعدم الحركة والكلام، وأيقنت أنني دخلت سجناً.. تولتني الدهشة والانزعاج!

انتهت الحصة الأولى دون أن ألتفت لحظةً واحدةً إلى كلام المدرس، ولا عجب في ذلك فقد قررت أن يكون ذلك اليوم الأول والأخير لي هنا في هذا العالم الغريب.
في دقائق الاستراحة (الفُسحة) رأيت الناظر يمر بباب الفصل، فتنفست الصعداء، ومضيت نحوه بلا تردد؛ إذ لم أكن نسيت لطفه ورقته عند استقبالي وأبي في الصباح. اقتربت منه في حياء، فالتفت نحوي في دهشة، ورمقني بعينين جامدتين متسائلتين، فظننته قد نسيني، وقلت بصوت لا يكاد يُسمَع:
– أنا عادل ابن المهندس أحمد إمام!
سألني بدهشة:
– وماذا تريد؟
فلممت أطراف شجاعتي وقلت:
– أريد أن أعود إلى البيت!
صرخ في وجهي بصوتٍ غليظ كالرعد:
– عُد إلى فصلك يا ولد.. تروح في عينك!
أذهلني صراخ الناظر الرقيق الغليظ، فعُدت إلى مكاني يكاد يغمى عليَّ من الرعب والألم، ولبثت في مكاني مروّعاً محزوناً!

وفي منتصف اليوم الدراسي الأول ليَّ في الحياة، شعرت بحاجة إلى التبول، ولكني كتمتها في خوفٍ شديد، ولم أفكر مطلقاً في استئذان المدرس بالخروج.. غلبني الحياء فلم أستطع أن أسترشد بأحد عن موقع المرحاض، وجعلت أتململ تململ الملدوغ، وكنت أشد على ركبتي في ألمٍ وجزع!

مر الوقت بثقلٍ وعذاب حتى دق جرس الخروج.. أطلقت ساقي للريح، بلغت البيت في ثوانٍ، وارتقيت السلم وثباً.. وفي الشقة وجدت أمي في انتظاري، فهتفت بقدومي.. لكن وقع بصرها مصادفةً على البنطال، فبدت في وجهها علامات الانزعاج، وتمتمت بصوتٍ منخفض:
– عملتها على نفسك يا عادل! هو أنت لسه صغير؟!
انفجرت باكياً، وقلت لها منتحباً:
– لن أعود إلى المدرسة مرة أخرى، وإني أكره الناظر والمدرسين والتلاميذ!
وأردفت باستغاثة:
– أنقذيني منها ولن أبتعد عنكِ ما حييت!
جففت أمي دموعي، ونزعت ملابسي، وهي تقول برقة:
– لا تقل مثل هذا الكلام، ستألفها يا بُني وستُحبها مع الوقت والأيام.
وسألتني وهي تحتوي بكلماتها أوتار حزني:
– ثم كيف تبقى في البيت والغلمان جميعاً في المدرسة؟ وهل يمكن أن تصير مهندساً مثل أبيك إذا تركت المدرسة؟

واصلت البكاء في هذا اليوم بلا انقطاع، وألححت في الشكوى مراتٍ ومرات، لكنها ظلت تلطف من حزني وتحذرني من البوح لأبي بشكواي فيغضب ويحتقرني.
وإنني لأتذكر أنها كانت المرة الأولى أن تكون لدموعي أُذناً صماء.. وقررت أمي كي تشجعني على مواصلة الحياة الجديدة أن توصلني كل صباحٍ إلى المدرسة. بالفعل كنا نذهب معاً، حيث أدخل أنا المدرسة، بينما تقف هي على الرصيف المقابل لها.. كنت أظل مُلازماً للسور أبادلها النظرات والابتسام عبر قضبانه، والكآبة ترين على صدري والضيق يمسك بخناقي!

كرهت المدرسة وحياتها جميعاً، ولكني أُجبرت على الذهاب إليها.. لم ينفعني عصياني ولا بكائي، ولم يغنيا عني شيئاً، فأيقنت أنه قد قُضي عليَّ بسجنٍ طويل الأمد. بدأت أحسد الكبار على حريتهم، وأغبط النساء على قبوعهن في المنازل!

إلى ذلك العهد يرجع سروري بيوم الخميس.. كان الخميس اليوم المفضل عندي من الأيام؛ أما بقية أيام الأسبوع فقد جفوتها واستثقلتها. كنت أستشعر الكآبة ابتداءً من عصر يوم الجمعة، لاقتراب موعد السجن الصباحي في السبت القريب.. على الحال نفسه، كنت أعاني الضيق والتبرم أيام الأحد والإثنين والثلاثاء، حتى يأتي صباح الأربعاء فأتنفس قليلاً من الارتياح لقرب الخميس.. كنت أستيقظ عند فجره وأتقلب تحت الغطاء في سرورٍ وانشراح، وكأن الدنيا لا تسعني من الفرح لقدوم الراحة الأسبوعية.
لذلك، تفوقت في دروس الخميس عن دروس باقي الأسبوع، وظل الخميس يومي المُبجَّل، المُعظَّم والأثير طيلة العمر بفضل المدرسة وقضبان أسوارها العالية!

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x