توقفت فجأة سيارة بيضاء ، ترجّل منها رجلان بثياب بيضاء ، حملا جثة ” عواد ” من تحت صخرته ، وغادرا بطريقة مذهلة ، لا أعرف كيف هبطت هذه السيارة ولا أعرف كيف اختفت .
الطقس شبه بارد رغم ذلك تجمّع نفر قليل من الناس لرؤية تفاصيل الحادث . الوقت عندما دحرج الليل آخر كرات النهار خلف الجبال المحيطة بالحي الموبوء بالسكارى والعاطلين عن العمل ، عاد الجميع وهم يرددون ما كان يقوله ” عواد ” . …أنا صلاح الدين ، أنا عنترة ، أنا جمال عبدالناصر ، أنتم لستم مني وأنا لست منكم ، أريد حبيبي أريد أن أعيش .
ترى هل أقفلت حانة عواد ، وبيته ، ومأواه ، هل سيعود الى صخرته ، أسئلة معقدة عاد بها الجميع …وسخريات فاضحة كانت ترتسم على وجوه نساء الحي .
في منطقة مهجورة ، لا حياة فيها ولا ضوء ولا ضجيج إلا من حفيف مخيف يصدر من تصادم الريح كلما هبّت على تلك الأشجار الواقفة كحارس على تلك القبور المبعثرة والمهملة .
رموه هناك قرب مقبرة منفية إلا من كلاب ضالّة وفئران وخفافيش .
أدرك رغم سكره أنه في غير حيّه ، وبعيد عن قلعته الأخيرة ، أحس بالإغتراب للمرة الثانية ، لم يستطع أن يقيم ألفة مع المكان الجديد ، أخذ يحس بحجم الخسارات المتلاحقة . بقسوة الناس بالصبايا وهي تمرّ من جانبه خائفة مرتجفة ، أصبح يرى كل ما حوله مجرد وهم ، حتى رجولته التي لم يجرّبها صار يكرهها ينظر إليها بشيء من الريبة والشك .
مشى بين القبور ، أحس بأصوات هامسة تناديه ، نحن معك . قم . إنهض . أخذته الحميّة وقف على أحد القبور وراح ينادي !!!! أنا منكم ، وأنتم مني أنتم الأمل أنتم أمل الأمة هيا لننتفض ، قام الأموات من قبورهم ، تجمّعوا حوله ، ألبسوه ثياباً بيضاء وأعطوه سيفاً وقالوا له : سرّ ونحن وراءك .
قال لهم : أريد أن أخلّص ” عبلة ” من الأسر ، إنها هناك خلف هذا الجبل ، وسار الحشد الكبير ، كبحر أبيض ، قطعوا الشارع الأول ، الثاني ، الثالث ، وصلوا طريقاً ترابياً ، الطقس صار يسوء تدريجياً ، وبدأت زخّات المطر بالتساقط منذرة بهطول أمطار غزيرة تجعل مهمتهم مستحيلة .
وأخذت تتسرب المياه تحت جسده . فيما بعض حبات المطر أخذت تنزلق من أعلى الصخرة وتسقط على رأس عواد الذي قام مذعوراً وخائفاً يتخبط في الأزقة المريضة الموحشة …التي صدّته أبوابها فيما ظل عواد يقوم ويسقط وهو ينظر إلى قلعته وكأنه يودّعها للمرة الأخيرة .
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون