ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : المُحرمات الثلاث . مسابقة القصة القصيرة بقلم / إيناس عادل مهنا ..سوريا

قصة

 

(المُحرمات الثلاث)

 

تأليف

إيناس عادل مهنا

 

  1. انطفأت قناديل الثريا واستوى السحابُ عرشَ السماء ولبسَ مطرفه الأدكن، هملجت الخيول على أرضٍ  سجْسج[1] حوقتها أشجارُالزيتون والبيوت الحجرية التى فرَّت نجوم سعدها بفقرِ قاطنيها  فحملقت العيون الفضولية من خلف النوافذ متهتكة الستائر، بالعسكر الذين ينطلقون وسط الظلام.

وعلى سريره أخذه الكرى وأقضّ مضجعه بعد أن رمس تراب حديقة داره، سلسلَ الدمعُ وداعب شفاهه طعم الملح الأجاج..كانت عيناه منفرجتان وهو على جنبه يحملق بالقمر الذي مزقه غيمٌ  قمطرير[2]  يداه مخشوشنتان من عملٍ عاهد نفسهُ على ممارسته كل يوم، ورداءه تائهٌ عن تغطية سائر جسده،أكله الفقرُ كسائر أهل مملكته، سمع صهيل الخيول وحوافرها فعرف أنهم قادمون لأجله فقد رآه البصاصون الليلة.. ورآهم!

صار يعدُ خطواتهم حتى دُفِعَ الباب بكل قوة  قبل أن يتقدموا منه شاهرين السلاح في وجهه قرأ أرقامهم ورتبهم العليا في جيش الملك فابتسم باستصغار حين قال قائدهم:

-انت رهن الاعتقال.

-أهلا بأرقام السمو.

فتلقى الضربة الأولى من كعب بندقية تلتها العديد من الضربات قبل أن يكبلوه ويجتروه بعد أن عقدوا ذراعيه..خرج من داره وسط مكاء وتصدية[3] الجيران وأهالي المملكةِ الخانعين حتى لا يطالهم أذى الملك، وكيلا يتعرضوا لمصير من تجرأ على اقتراف الذنب العظيم الذي فعله الرجل..مع أنه كان كثير الكرم، رحب الذراع، يبدي حاجة المحتاج على نفسه.. إلا أنه كان يحمل صفة منعها قانون الملك .

جرته الخيول على تراب الأرض التي أفنى عمره في حرثها وزراعتها وتباينت جراحه وصار ينزف حنى قارب الإغماء، وصلوا بوابة القلعة التي ترتقي أبراجها السماء فكأن الغيم فوق حجارتها عمامة قاتمة، وتوجهوا ناحية السلطان العظيم(الوهبان) الذي يسهر الليالي بين جواريه وينام في الصباح، وكان الوهبانُ قد طلّق الأخلاقَ ثلاثاً، وعاشرَ اللؤمَ والشؤم، مختالٌ بنفسه وكأن الشمسُ لا تطلعُ إلا لأجله كل يوم،

رأوه جالسٌ على عرشه يتدلى كرشه في تململ ينتظر المجرم لمحاسبته..

اقترب الحراس والرجل بين يديهم كخرقة بالية إثر الضرب والسحل على أرض المملكة ودفعوه عند قدمي الوهبان الذي ابتسم في نشوى وهو يقرأ رقمه المدون على قميصه الأسود المهترئ، وصاح وهو ينمق شاربيه:

– انت يا ابن الخطيئة.

رفع الرجل عينيه واغتصب ابتسامة باهتة فبدا مع أسنانه الدامية وضخامة جسده كمسخ بشري، استوى بعد جهد ليس بالهين ..وانتظر صامتاً وبعينيه ألف كلمة يود لو ينطقها فينتهي من عذابه بسرعة فهم على كل الأحوال سيذيقونه أصناف الموت على مهل..كان رجلاً أرضعته الحنكة وعركته الأيام، همهم الملك الوهبان وهو يقوم من عرشه ويديه خلف ظهره في تعاقد..سأل في غضب:

– تجرأت على القانون..ولا أحد فوق قانون مملكتي.

-أنت تتجرأ عليه كل يوم..ألا تفعل حين نناديك باسمك ؟!.

صدرت شهقات من صدور الحاشية وكاد الحرس ان يبدؤوا في الضرب فرفع الملك كفه وصاح: لا يقربن أحدٌ منه.

ثم أردف ببسمة إعجاب من وقاحته :

  • يداك أَوكَتا وفوك نفخ [4]أنا الملك الوهبان…أنا فوق القانون.

ضحكَ الرجلُ ساخراً فضحك الملك فاهتز كرشه وهذه المرة لم يمنع جنوده الذين

 تكأكأوا[5] حوله و انهالوا بالضرب عليه حتى كادت عظامه أن تخرج من موضعها..أعادوا سحله[6] من جديد وانطلقوا رفقة الملك ناحية أرض الرجل الذي فضح البصاصون سره، وتوقفوا عند شجرة الزيتون الضخمة  التي كان الجنود يحفرون أسفلها..حتى وصلوا لمبتغاهم ودهشوا مما وجدوا، صفق الملك بيديه فجاءه الجندي يحملُ الحجر الثقيل بين كفيه ووضعه عند قدمي الملك الذي داس الحجر المنقوش… فأعاد الملك السؤال وهو ينحني ويمسك الرجل من شعره:

– يا عديم الولاء..أنقشت اسمك على حجر!

فصرخ الرجل بصوت مجلجل: منعت عنا أسماءنا، وردمت الترابَ على أحلامنا ماذا تريدُ بعد!

تعالت صيحات الاستنكار والاستحقار من جميع من كانوا حوله رغم أنهم…وفي أعماقهم تمنوا لو امتلكوا نصف شجاعة الرجل المسمى (34556).. ضحك الملك :

-سيلتهمكما أنت وحَجَرُك الدود كأجساد من سبقوك

-سيفنى جسدي لكن الأحلام لا تتحلل والأسماء لن تموت حتى بموت أصحابها.

زمجر الملك وقد استطاع الرجل أن يستفزه فصاح فيه:

الأسماء لن تليق إلا بالعظماء أمثالي أنا الملك الوهبان أعظم ملوك هذه الأرض..من أنت لتنقش اسمك وأحلامك السخيفة على الحجر! ما انت إلا رقم كآلاف الأرقام البشرية على أرض هذه المملكة.

قال الرجل في جلادة:

-بل أنا احمل اسما وسأورثه لأحفادي من بعدي، لن تطمسوه حتى ولو قطعتم رأسي.

-ستموت إن نطقت اسمك، هذا قانون مملكتي .

 فضحك الرجل هذه المرة وبصق دماءه على التراب قائلاً بثقة : احفر تراب المملكة وسترى تحت كل شجرة  اسمًا منقوشاً على الحجر وحلمًا يحيا وينتظر اللحظة ليتنفس الحياة سترى أن من قتلتهم بطغيانك مخلدون..منقوشة أحلامهم وعلومهم وأسمائهم على الصخر وجذور الأشجار التي تنبض من دمائهم.. اقطع رأسي لن أبالي فجئتك اليوم ميتاً…أنا الأدهم.

وما إن نطق الأدهم اسمه حتى صرخ الملك الوهبان: أنت مذنبٌ في التمرد على قانون المملكة، مذنبٌ في الحيازة والترويج للأسماء والأحلام، أنت خطرٌعلى أمننا القومي وإعدامُكَ واجب..

شخصت عينا الأدهم حينما رأى أشعة الفجر تتسلل …ثم نظر إلى تراب أرضه ورأى الأسماء المنقوشة على الصخور من تحت التراب تبتسم فابتسم، أغمض عينيه ورأى حلماً، كان حلمُه بسيطٌ جداً، يحلم بأن يكون له اسمٌ وحلمٌ حيٌ يسعى لتحقيقه،وأنه يعيش على أرضه بحريةٍ وكرامة.

فتحَ عينيه وقد أيقن أن موته لن يكون إلا بداية عهدٍ جديد، صرخ بقوة: أنا الأدهم

 رفع الملكُ كفه معطياً أمره فقطع السياف رأس الأدهم وانفصل بحركة واحدة وتدحرج لعند قدمي الملك الوهبان الذي انحنى وأمسك الرأس بين كفيه

غادر الوهبان الأرض بعد أن أمر بحرقها وهدم المنزل وحمل رمحًا غرس رأس الأدهم عليه وعلقه على شرفة قصره كي يفهم البقية ما هي نتيجة مخالفة القانون بامتلاكِ اسمٍ وحلم وعلم.

عرف العامة بشأن الواقعة وبأن هذا الرأس رأس الأدهم الذي ظل على مدارأعوام يحفر أحلام وأسماء أبناء مملكته على الصخور تحت شجيرات الزيتون التي انتشرت بشكل كثيف، كانت الأسماء التي ولدوا بها من المحرمات الثلاث(اسمك وعلمك وحلمك)

فُتِتت الأكبادُ على موتِ الأدهم، وعكف الحزن على الأكتاف وانتشرت الأقاويل وزاد الشغب يوماً بعد يوم وارتفعت رايات الهرج تختفقُ الأفق إذ كان الشعب ينتظر شرارة لينتفض وكان الأدهم هو رأس تلك الشرارة.

حفر الأهالي تراب أرضهم بأكفهم واخرجوا صخور أحلامهم وأسماءهم من مأواها…وصاروا يصرخون كلٌ بإسمه في تحدٍ لقانون الوهبان فتباينت الأسماء واجتمعوا على حلم واحد بأن يغتالوا الملك

والتحم الشعب بمعركة دامية مع الجيوش واستشرسوا في الدفاع عن حقهم حتى بلغوا مخدع الوهبان وخرجوا به ساحة الأرض فانكب على وجهه خانعا ذليلا وصار يصرخ يستجديهم الرحمة لكن الشعب انهال على الملك ضرباً مبرحًا صائحين: لقد أمِنتَ عرشك، وخاللتَ وسواسك، أخرستَ أفواه العدلِ وأطلقت المحرمات تفتي فيها وتمنع،هتكتَ أعراضنا، وسفكتَ دمائنا فاحصد ما زرعت

وضربوه حتى قضى نحبه وسالت دماؤه على تراب الأرض، فعادت الأسماء لأجسادِها والأحلام تنفست الحُريةَ من جديد.

[1]  أرضٌ سجْسَجٌ: ليست بسهلةِ ولا صُلْبَة

  1. [2] القَمْطَرِيرُ : العصيب الشديد

[3] مكاء وتصدية: يدلون أفواههم في فمهم ليصفروا كتصفير الطيور.

 [4] يداك أَوكَتا وفوك نفخ :تقال لمن يجني الهلاك على نفسه

[5] تكأكأوا: اجتمعوا

[6] سحله: جره وسحبه

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى