مسابقة مهرجان همسة للأدب
فرع القصة القصيرة
عنوان القصة: تذكرة عودة
-تأليف: عبد الرحمن حساني أحمد
– جمهورية مصر العربية
رقم الواتس آب: 01118720136
تذكرة عودة
نظرت لها وبلهفة المغيث المشدوه، ازدردت ريقها، وقالت: ” لكن يا حجة…”، أمسكت بلسانها الجامح في اللحظة الأخيرة، وبفطنة بالغة استرقت بعينها لمحة كشفت بها هيئة الحجة أم سند من رأسها إلى عقبيها.
فالحجة أم سند امرأة ليست كمثل الأخريات، العاديات، المرفهات، ساكنات القصور أو حتى البنايات العالية، بل هي واحدة من تلك القلائل اللواتي يكدحن من أجل قوت يومهن، تحمل على وجهها غبار الزمان، وشقوق المآسي والأزمات، والناظر لعينيها سيدرك معنى الحزن والخذلان، جاءت إلى مصر ” أي القاهرة ” – لطالما عرفها أهل الريف والجنوب بهذه الكنية، كون كل مظاهر الحياة مكنون بها – بعد أن توفي زوجها وابنها الوحيد في حادث سير اثناء عودتهم من بلاد الخارج بحثا عن لقمة عيش، جاءت تبحث عن رمق جديد وسبيل للرزق من جرة الجبن خاصتها، الذي باتت عليه طوال الليل تجهز فيه، بعد أن حصلت على لبن بقرتها الوحيدة، وآخر ما بقي لها في الحياة.
استقلت قطارها في رحلة لا تعرف طعمًا للراحة أو الحنان، رفعت جرتها، أحكمت تمركزها على رأسها تمامًا، معلقة كلتا يديها بأذني الجرة، تقف خلف الباب تتأهب للنزول، تلتقط بعينيها أوجه البنايات الشاهقة، وقف القطار على رصيف المحطة ومعه بدأت حرب الاندفاعات، كلٌ يسرع في النزول أولًا، وظلت هي كالزورق تلاطمها موجات البحر، تتشبث بجرتها كأنها طوق نجاتها الأخير، حتى نزلت في أمان، من ثَم بدأت تُسائِل نفسها أين المفر من هذا المكان الأشبه بمستعمرات النمل، لمحت أحد أمناء الشرطة، فأسرعت نحوه كي يدلها للخروج، وبعد أن خرجت ودت لو أنها بقيت في الداخل أفضل، غرقت عيناها بين البنايات الضخمة والشوارع المكتظة بالعربات، وتراشقت في أذنها الصيحات والشتائم، وحناجر السيارات وصافرات المرور، وسهام الشمس التي تزفر لهبًا تضربها من كل حدب، فخالجها شعور بعدم الانتماء لهذا العالم، البعيد كل البعد عن عالمها الذي تعرفه وجاءت منه.
فأخذت بها قدماها إلى حيث أخذت، تجوب أرجاء المدينة كفأر داخل المتاهة، تفترش ببضاعتها هنا وهناك، فيأمرها رجال الشرطة بالمغادرة تارة، وأخرى بأمر الشمس، حتى بدأ يظهر عليها أمارات التعب والإعياء، فكل ركن بها يتصبب عرقا، وعظامها تصرخ ألمًا، وعلى الرصيف أسفل أحد الكباري، اسندت جرتها وتكأت، وهي تتنهد كمَن كدح الدهر في بضع ساعات، وبدأت تناجي نفسها ” كل ذلك في أول يوم، بل في أول ساعات من نهاره، لا لن أقدر على ذلك.”
– على فين العزم يا أم سند.
– على مصر، إن شاء الله.
– يا وليه أنتِ عجزتي خلاص مش هتقدري على مصر.
– يمكن عجزت بس لسه عندي نَفَس.
ترامت في أذنها تلك المحادثة التي دارت بينها وبين أم سعيد جارتها في بكور اليوم. ثم أردفت، “ولا يهمني كلام الوليه أم سعيد، وشماتتها عندما أعود خالية الوفاض. هي على حق، لقد شاخ سني ووهن العظم مني، سأعود إلى بلدي، أرعى بقرتي حتى الموت.”
وبعد فينة من التفكير العميق والتدبر في الأمر، قررت أنها ستعود إلى حيث أتت، وصلت إلى المحطة، أسندت جرتها على السلم لتخرج من جيبها ما بقي من مال، تعتصره في قبضتها، متجة إلى منفذ التذاكر، تشق الزحام، وبعد معاناة الفاقد لولده، بمساعدة أحد الشباب، حصلت على تذكرة عودتها، جلست تراقب القطارات، كالمشتاق لحبيبه، وكلما أتى قطار تسأل أحد العابرين إن كان قطارها، وفي كل مرة يأتي لها الجواب بالنفي ” هذا ليس قطارك يا حجة “، حتى لمحت فتاة تجلس على مقربة منها يبدو عليها الحزن، فسألتها إن كان قطارها هو الرابض على الرصيف الآن، فنظرت لها وبلهفة المغيث المشدوه، ازدردت ريقها، وقالت: ” لكن يا حجة…”، أمسكت بلسانها الجامح في اللحظة الأخيرة، وبفطنة بالغة استرقت بعينها لمحة كشفت بها هيئة الحجة أم سند من رأسها إلى عقبيها، فعلمت أنها امرأة ريفية، لن تقوى على تحمل الصدمة، لن تستوعب أنه تم النصب عليها من قبل عديمي الرحمة، فالتذكرة لقطار قد فات. وللأسف وقعت في فخ حسن الظن بهم وأنه رجل ذو نخوة وشهامة.
https://www.facebook.com/abdalrhman.ahmed.1428921?mibextid=ZbWKwL