ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : حرب الكازوزة . مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمد لطفي محمد . مصر

الإسم: محمد لطفي محمد
الدولة: مصر
فيس بوك: https://www.facebook.com/mlotfyff/
تليفون: 01005305453
مسابقة مهرجان همسة
فرع القصة القصيرة

قصة بعنوان “حرب الكازوزة”

– “حاجة ساقعة بيبس”
انطلقت العبارة – مصحوبةً بطَرقات معدنية مكتومة – عبر أثير الضوضاء والأجساد المتلاصقة لتجد طريقها لأذني؛ فرفعت عينا نصف مغمضة إلى مقدمة العربة.. كان بائع المياه الغازية قد دخل للتوّ معلنا عن نفسه بتلك العبارة، التي يبدو أنه توارثها أبا عن جد هي وجلبابه المتسخ، الذي يرتفع أحد جانبيه دوما ليكشف عن ساق ونصف فخذة عجفاء، بالكاد تكفي ليسند عليها جردله المعدني الصدئ!

كان قطار الدرجة الثالثة مزدحما كعادته، وقد تفاعلت حرارة الصيف مع الأجساد المنهكة في نهاية اليوم الطويل، فسال العرق غزيرا، وزكمت رائحته الأنوف، وتراكمت أنفاس الركاب الثقيلة لتضيف إلي اللهيب لزوجة خانقة!

أسندت رأسي إلى إطار النافذة المجاورة، ومسحت وجهي بيدي.. يا إلهي!.. ثلاث ساعات يوميا في هذا الجحيم.. ومن أجل ماذا؟!

مددت قدمي اليسرى قليلا، فيما حرصت على إبقاء قدمي اليمني مطوية أسفل المقعد، وأغمضت عيني مرة أخرى.. تتابعت عليَّ صورٌ قديمة باهته.. قاعة المحاضرات، سكاشن العملي، الرصيف المقابل لكافيتريا الجامعة، مباريات الكرة على الأرض الترابية خلف مخازن “شركة النصر”، سينما “علي بابا”، مسمط “الحسين” وأطباق “السمين” و”الكوارع”.. وجه هالة الهادئ وغمازتيها الجميلتين وهي تهمس لي بإشفاق: “سوف يأكلك العالم، ماذا يفيدك السيف والناس حولك يطلقون الرصاص!”.. أنتشي بالثناء المبطَّن في تحذيرها وأجيبها باعتداد النبلاء: “نصر الفارس أن يظل فارسا رغم أنف العالم!”.. يفتر ثغرها عن ابتسامة رائقة وتقـ…

– “حاجة ساقعة بيبس”!
انطلقت العبارة بفجاجة للمرة الثانية فانفرط عقد الذكريات!.. كان الصوت مختلفا هذه المرة.. رفعت رأسي بغضب للجهة الخلفية من العربة فوجدت بائعا آخر قد دخل معلنا عن نفسه أيضا!

أووف.. تلك المسرحية مرة أخرى، “حرب الكازوزة” كما تندرت عليها من قبل.. ها هما البائعان يتبادلان النظرات النارية.. يتراشقان السباب، يبدءان بالمنضبط أولا ثم البذيئ.. يخترقان الزحام ليتلاقيا في منتصف العربة.. يتناثر الزَبَد، وتتلامس الأنوف، وترتفع الأيدي عاليا في حركات تمثيلية محسوبة.. ثم ينسحب الثاني منهزما متوعدا، فيما يصيح الأول منتصرا متحديا أن يحول أحد بين الزبون وبين ما يريد.. وها هم ركاب العربة – وقد نفضوا عن أنفسهم غبار الكسل وخرجوا من قبضة الموت – يستجيبون للنفير ويتزاحمون على البائع بحماس.. وها هي الطَرقات المعدنية على الجردل تتصاعد، وأغطية الزجاجات تتطاير في كل مكان!

كم مرة شاهدت تلك المسرحية؟.. عشر مرات أم مئة؟.. كم مرةٍ انطلت عليّ فشاركت فيها مثلما يفعل هؤلاء المغفلون الآن، قبل أن انتبه إلى السيناريو المتكرر دائما مهما اختلف البائعون، فأنسحب بخجل وأكتفي بالمشاهدة!.

انكسر جدار الصمت بين الركاب، فسالت كلماتهم مختلطة بأصوات البلع والتجشؤ!.. لمحت الرجل الأربعيني البدين، الذي لم أكن أعرف اسمه رغم ركوبه القطار منذ أعوام! ..كان يقف جانبا في حُلّته القديمة الكالحة، مع رجلين آخرين، وقد لفّ كل منهم قبضته على زجاجتة بقوة! .. كانت عيناه تلمعان – ربما من أثر الصودا – وشفته السفلى ترتجف وهو يردد عبارته اليومية:
– “الأشكال دي متجيش غير بكده صدقوني.. لازم ياخد على دماغه علشان يعرف مقامه كويس.. آل محدش يقدر يشتري آل!”

أشحت بوجهي في ضيق .. رفعت شيش النافذة الخشبي المتهالك طلبا لبعض الهواء.. بدا الأفق ملبدا بسحب الدخان، وعلى المدى انتشرت أكوام القش المكدسة عبر الحقول، بعضها يستعر في جنون برقصة الدخان والنار، وبعضها يقف في صمت وأناةٍ متمسكا بحقه في متعة أخيرة .

لفح اللهيب وجهي فجذبت الشيش مرة أخرى؛ لكنه عَلِقَ في إطار النافذة!.. جذبته بكلتا يدي؛ فتشبث بالإطار أكثر وأكثر!.. أشحت بوجهي في ضيق فلمحتُ الرجل في المقعد المقابل ينظر بلامبالاة ونعاسٍ إلى اهتراء مقدمة الحذاء في قدمي اليمنى بعدما غافلتني وخرجت من أسفل المقعد.. التفتُّ إلى الشيش بغضب، وقمت واقفا ومِلْتُ عليه بثقلي فانكسر!.. عاودت الجلوس مرة أخرى، ودفنت وجهي بين كفيّ.. خذلتني عيناي!

بعد قليل سمعت ضحكات الرجل الأربعيني وصاحبيه .. رفعت وجهي أنظر إليهم طويلا.. لمعات عيونهم، ارتجافات شفاههم، ضحكاتهم الصاخبة، قبضاتهم المضمومة بقوة بعدما لم يعد أمامها إلا أعناق الزجاجات.. أشحت عنهم ثم مسحت وجهي بيدي وأنا أصرخ على البائع بصوت لا أكاد أعرفه:
– “واحدة هنا لو سمحت”!

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى