هي رفّ نور يأتلق خِلسةً لِيُوقظ في القلب شوقاً دفينًا، أتعلّق بهدبه الواهن ليحملني إلى حيث كان الزمان يُماهي طفلًا يخوض عاريَ القدمين أنّى دعاه المرح. يُمضي النهار جذلان، ويأوي في المغيب على وعدٍ بالتلاقي.
كل الأشياء غلّفها السّكون، وجه أمي أضحى مئذنةً حزينة، وناقوسًا خافت الأجراس. أخي الصغير ضاعت منه ضحكته. شجرة حورٍ هي ما تبقّى من أصدقاء، ولا يواسيني سوى صمتها.
” هاكِ هو المفتاح، هبيه قطعة حديدٍ أُوْدِعُها في حفرة على مرآك وعند قدميك ”
يلقيه ويستند بكتفه إلى الشجرة، يرسل نظراته تنوء بالذكرى، والصّوت يثقله همٌ قديم .
كان ” يا ما كان ” فلاح وبستان، له بقرات وبيت وزوجة، وقبل أن توقظ الشمس الخلائق، يفتح باب داره ويمضي ناهرًا بقراته ليلاقي الشمس على الطريق، يضع عنه عباءته، يرد طرف ” قمبازه ” إلى حزام جلدي عريض يحيط بوسطه، ومن خلف البقرات يشق المحراث طريقه. تعلو الشمس حتى يطفح العرق من الجبين، يقطر على التربة السمراء، ثم تهدأ اليدان ويستكين الجسد المكدود في ظل ” شجرة برتقال ” ، يغفو ….. .
في الدار صبية تسوي الفراش، تغسل وتطهو، وعند الضحى تغلق الباب بالمفتاح، وخلف خطى زوجها تمشي وتوقظه، تحِلّ المحراث ثم تجالسه.
أرهب الأصوات كان صوت الذئب يخترق سكون الليل. لكن هذه الليلة، سبق الشمس رصاص وبنادق ودماء، وانكشف الصبح عن دويٍّ مفزع وجُثّة،ووجوه ببشرةٍ حمراء كأنها قادمة من الجحيم، توقفت كل التفاسير، وخَيَار الحياة كان السبيل، وكانت له ساقان قويتان، فانطلق وفي قرارته عودٌ قريب.
– كنت قد أوْدعتُ الحكاية يا صديقتي في غوْرٍ بعيد، وأهَلْتُ فوقها كل شيء والنسيان، حتى صادفتها، صبية حسناء من تلك المدينة!
ضِقْتُ بصمتها الطويل بعد سؤالي عن اسمها وأَعَدْتُ مغتاظًا
– ألكِ اسم؟
– لاتُهِمُّ الأسماء . أجابت.
فتداركْتُ ارتباكي.
– إذن ماذا أدعوكِ؟
– عبير
– هو اسمك إذًا (وافترّت شفتاي عن بسمةٍ خفيفةٍ)
– لا، أجابت. وعاد إليّ ارتباكي.
– إذن ماذا يكون؟
– ألا تعرف العبير؟!
ومن وسط حيرتي تعلّقت نظراتي بمفتاح معلّق في العنق أيضًا. هم يفعلونها حتى الآن، لكن بمفاتيح أصغر.
الموت ينشر الرعب مع الهواء، ولم يبق من الليل إلا هزيع، حزم ملابس قليلة وأغلق الأبواب، وخلّى مفاتيحها، أما الباب الخارجي الكبير فقد أخذ مفتاحه، ربطه بخيط من القنَّب، وعلّقه في عنقه لحين العَوْد.
ابتعَدَ وأمِن. وبدأت صحبة الانتظار، تكشّفت الأيام عن رحيل بلا عود فانشلع القلب شوقًا للحقل والدار، الحراب كانت مشهرةً، فظلّ القلب معلقًا كصخرةٍ المعراج بلا أرض وبلا نبيّ.
عيسى كان دعوة محبة ورسول سلام، ألقى كلماته فرقّ القلب حتى أضحى عصفورًا، وتذاوب الجسد حتى اختفى ” لو قتلتني سأبتسم لك ” قال حواريٌّ. هذا لِسكّين مشرع على الصدر، وتابع ” حطّمتُ مدخل فرويد إلى النفس، لذةً وألمًا، لست ماسوكيًّا ولكنّها الحقيقة”.
تُراه شهد ولادة يهوذا فأخلى له الدار، أم هل عرف عن أحلام اللاجئيين بقمرٍ مليءٍ بالفضة. العلم لا يرحم – قمركم ترابي . مُتْرَعَةٌ خزائن يهوذا بكثير من الذهب والدم، ومضمّخ رأسه بالخمر، ينغر المكر من الثنايا، يتنفس يهوذا جثثًا ويخلّده الغدر “.
من قبل كان القمر من فضة، والأرض تدرُّ العطايا، وما بين الأشجار متكأ للأزواج والعشاق ” تأمّلوه فقط، قمر خرافيّ – كان الليل أليفًا- هذي بيوتنا أبواب مشرعة ولا لصوص “.
يهوذا أصبحت مملكة، وكانت الأرض كنعانية، موطن إبراهيم الرسول، أرض أُنْزِلوها بعد تِيه، في أربعين ما يكفي من عقاب!. موسى دعا إلى الله والنفوس كانت إلى العجل أقرب. كان ذهبيًّا ويهوذا عشق الذّهب قبل أن يعرفه ميدوس!
حلّوا غازين، ” راحاب بين ظهرانيهم تعيش، دعوها تقودنا ” أنفذ الله وعده ” أبدأوا بالرقاب الطفلة، وتفرّد الحاخام في سبْته ” بالخبز المقدس ” عجَنته راحاب بدم طفل من قِبية، وأنضجته على حرقة قلب.
– تفضل سيدي. وتابعت.
أطفال دير ياسين قد تخثرت دماؤهم وأطفال شاتيلا موعدهم ليس بقريب، هي قِبية الآن في أيدينا بكل ما فيها، وأنت أبدًا عزوف عن النساء، على أية حال الشقراوات أفضل. وأنا شرقية – يا سيدي – بدماء شقراويةً.
– يرفع طاليته عن وجهه، يرمقها للحظة، تجفل.
– أريد قِبْيَة ……… يسكت ……… خالية.
الصوت قدم من كهف بعيد، اشتمت منه راحاب رائحة أليفة، انبعثت من دم هابيل المسفوح ما بين الصخرة والتربة، قابيل قد أصبح سيّد الأرض ومالك النساء – أطلق قدميك أنّى شئت، ويديك لأية غاية فإنك مدركُها – حدّثَ نفسه قابيل.
المرأة لم تعرف الحُبّ بعد، ورجل آخر حلّ مكان رجل غاب، وكان أول قتيل من البشر.
شاهدت هي الموت لكنها لم تعرف الحبّ، وفي متعتها نسيَتْ وجه هابيل وخبا في أذنيها صوته، فأشجار العنب تضيق بأيّ حزنٍ قد يشوب المَرح.
هذي امرأة كنعانية – تقيم في المخيم – نسجت تواشيح ثوبها من أشجارٍ وكرومٍ تناءت عن عينيها، ألهمتها الذاكرة التي يشعلها المصباح الكازي كل ليلة، فكانت تستجلي بريقاً من أيامٍ حبيبةٍ خلت وانتهت إلى عتمة المخيّم.
ورويدًا نبتت على الأثواب الكروم، وأشجار أُخَر، والطيور استقرت على الصدر وغدَتْ ” البيارة ” تعيش معها لتفتقدها كل يوم.
تمدّ يدها الى العنق، المفتاح لم يعد يُجْدي حمله، ترتدّ الذراع منتكسة.هذي شوارع المخيم، تتكئ على أكتافٍ من الإسمنت، يرين على القلوب شيء كالنسيان، ويأبى الجميع أن يتذكّروا، فقط يهملون التفكير ” ولأرزاقهم يمضون “.
تُرى هل خرج من زقاق (الجيتوات) في أوروبا رجال بأثداء، كانت أوروبا منزعجة جدًا لمثل هذا الاحتمال ” أبعدوهم من بيننا ” هدأت صدورهم واستقرت نظراتهم الزرقاء. التقت القلوب على الجريمة، وما زال في الفضاء صوت الضحية وعلى الأرض جسدها والمفتاح.
وعبير صبية قد دخلت قلبي وبقيت فيه.
أكتوبر /1988
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون