حظ سيء
القصة القصيرة
إذا أردت أن تصل ” كحلة ” فما عليك إلا أن تصعد في تلك الشاحنات القذرة المعدّة أصلاً لنقل الماشية ، وما عليك إلا أن تلتهم صوتك الجريح بصمت ، وترسله مادة عسرة لمعدتك المنخورة بديدان التواطؤ والتخلف ، وتفتح فمك للغبار والدخان وأشياء أخرى ، وأنفك ليبتلع تلك الروائح التي خلّفتها المواشي في بطن هذه الحافلات .
من كان ينظر في وجوه الرجال المقذوفة بالطعنات والمؤامرات يراها تبكي بلا دموع ، تموت بهدوء مخيف .
إذا ما ودّعتْ عيوننا ” الشوكة ” المزدحمة بالفوضى وبالأصوات المذبوحة ، حتى تظهر لك بيوت شبه مدمّرة من الطوب والصفيح ، هادئة كمقبرة تحرسها كلاب ضالّة تنتشر على جنباتها .
اقتربنا من بيتها الموبوء ، البيوت كانت شبه نائمة ، وصوت شخيرها الذّبيح يعطيك مدى الفجيعة والوجع البشريّ المدفون في تلك البيوت المترنحة .
رجال ذابلون ، مريضون بالأمل ، ونساء مقتولة الرغبات ، وكم تحس بالتعب الإنساني المجّاني ، وبالظلم الذي يفرضه الوجود على هذه الفئات المضطهدة .
قرب استراحة ” الورود ” كان هناك مقهى صغير ، تديره امرأة مع بناتها فيما كان الزوج مغيّباً ، قابعاً في منزله المتفسخ .
سحبت كرسيّاً خشبياً وجلستُ ، أشعلت سيجارة ، ومرّ بخاطري ذلك الوجه القمريّ الذي كان مختبئاً في هذا المقهى العفن ، نسيت كل التعب وكل وجع الطريق مشيت باتجاهها
لم أُعر نظرات أمها الغضبى أي اهتمام
قلت لها : أنتِ من أتى بي إلى هنا
ابتسمتْ وغابت داخل المقهى الصغير
بلدة ” الشوكة ” قبور يلوذ بها سكارى ومتسكعون ، نساؤها جرار مفتوحة لكل الظامئين .
في ذلك اليوم كانت المرأة القاسية وبناتها في شاحنة صغيرة ، وقد حملوا مقهاهم الصغير بعد أن قرروا الرحيل لأمور غامضة .
جريت باتجاههم ، رفعتُ يدي ، صرخت ُ وعندما طواهم الطريق ، طرف الكحلة في عينيها قد أدمى فؤادي الجريح .
لم أكن أفهم معنىً لهذه المشاعر كما اللحظة اليوم
قرية ” الشوكة ” هجرتها الفراشات واعتزلها اليمام البري ، وأرغول الرعاة ، أصبح فزاعات ونباح كلاب جائعة ، والنساء فقدن كل أمل على هذه الأرض ، إذا كان ” على هذه الأرض ما يستحق الحياة ” .
عبرنا بيوتاً متلاصقة ، وقصيرة تضج بالفوضى ، وبأطفال تغوص أرجلهم بالوحل ، وبنساء تقرأ في وجوههن الكالحة كل مآسي الوجود .
قال أحدهم : إنه المخيم
وعلى أطرافه تترامى بيوت شعر وخيام مزركشة وبيوت طين وطوب إنهم الغجر .
توقفنا ، دخلتُ إحدى البيوت ، كان ينبعث منها صوت قهقهات أنثوية ، وضوء أحمر خافت يناسب الجلسة .
اقتربتُ من سيدتين كانتا تجلسان خلف الباب ، دخلتُ الى غرفة ملحقة بالبيت ، كانت فتاة تخفي وجهها بين ساقيها وشعر أسود يستر ما بقي من رجليها ، اقتربتُ بخوف وحذر
رفعت رأسها
وكانت المفاجأة ، تلعثمتُ لم أستطع الكلام
قالت بصوت مترجرج : لم أختر هذا الطريق
تذكرتُ وفتحت دفتر الذكريات على تلك الليالي الجميلات . فرّت من عيوني دمعات كالنار ،بينما كانت هي تعوم في بحر من الدموع
تركت الغرفة المظلمة سحبتها خلفي ، لقد كانت ذابلة كوردة أطفأت يناعتها مزهرية رخيصة ، كأنه حلم .
أخذتنا أقدامنا التائهة نحو مزرعة ” كحلة ” دون وعي ، كانت شبه ميتة . ما إن وصلنا البئر حتى تقافزت ضفادع وطيور ، كانت مختبئة في فراغات البئر المهجورة ، وتباعدت كلاب نابحة تاركة المكان لميتين جاءا يبحثان عن قبر لهما .
لقد رأيتك الليلة الماضية . كنت وحيدة كعروس البحر متوهجة ثم قفزتِ في البحيرة جريتُ خلفك لكنك تماهيتِ في الماء .
لم تتكلم . والدّيكة بدأت تستعد لإطلاق صيحاتها عندما ينسلّ أول خيط للفجر ، لمّا قالت : لن تراني أبدا
بدأت أقتفي أثرها على الرمال الخشنة ، أحسست بكل نخل المزرعة قد تكوّم على صدري الهرم .
بدأت بالصراخ بينما سيل جارف فجأة قد اندفع باتجاهي . عندما أحسست أني كبرت كثيرا .
فكّرت قبل هذه التفاصيل بكل هذه المتناقضات ، وكيف التصقت بذاكرتي الهشّة .
أسدلت الستارة على الشرفة المحترقة وعلّقت قميص الذكريات على مسمار العزلة المدقوق في جدار النسيان ، وتابعت مسيري حيث دخان الشرفة المتسلق نحو السماء .
قصة : حظ سيء
مسابقة القصة القصيرة
رشاد جودة رداد
الشهرة : رشاد رداد
الأردن
الأردن
ت: 0795631848
الايميل: [email protected]