ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : حظ . مسابقة القصة القصيرة بقلم / غيثة رشدى . المغرب

قصة قصيرة / غيثة رشدي / المغرب .

 

حظ

رفاث أجساد هالكة تستلقي على سرائر قاسية، كأنها صنعت من طوب و حجر. تنظر العيون إلى الأسقف البالية قبل أن تهجع النفوس و تُسد الجفون. تهوم الأرواح في عالم يكون فيه الجميع متساويا. الحطاب كالملك، و الصياد كالوزير، و بائعة الهوى كأميرة لا دور لها في الحياة. تجتمع الأرواح متماسكة، و تخترق كل الأرواح السيئة التي ما فتأت تأكل من قوتهم و تعبث بمصائرهم. تستيقظ الأجساد، بدون أرواحها، فالأرواح لم تنتهي بعد من جلسة تعذيبها للصوص.

في مدينة صغيرة، تسمع الأذان نفس ترددات أصوات طرطقة الأحذية. الجميع يلبس نفس النوع المهترئ. يمشون نفس المشية، يعيشون على نفس المذلة، و البؤس، و يستنشقون نفس الأمل في غذ أفضل، بين أذرع شخص آخر غير من كان يحكمهم: الإمبراطور.

الحياة بالنسبة لهم أرض يلتقطون فتاتها ليقدمونه هدية للإمبراطور رغبة في نيل رضاه و بعضا من الفرح لكي يروي ضمأهم من اليأس الذي ابتلع قلوبهم. لقد ضاق معظهم ذرعا مما كان يحدث. وصل عدد كبير من الناس إلى استنتاج أنهم ليسوا أقل شأنا من الإمبراطور، و بأن هنالك خللا ما، خللا تقع على عاتقهم مسؤولية معالجته، لكن الخوف، الهلع و الفزع من النتائج المرعبة كان كفيلا بأن يطبق شفاههم، و يوجه حواسهم إلى العمل لإسعاد امبراطورهم.

اتفق الجميع على نقطة واحدة، لقد كان الكل ميتا ، أجساد بدون أرواح، إلا الإمبراطور، و أولائك الذين يجمعهم تحت اسم حاشيته، لهذا كان يضع أدم رأسه كل ليلة على المخدة، يتجاهل أصوات شخير اخوته الذين يشاركونه نفس الغرفة الصغيرة، و يهمس لنفسه و هو يوجه أنظاره نحو السقف البالي: أتمنى أن أصبح الامبراطور. يقال أنه إذا ما تمنى شخص أي شيء بصدق أكثر من أي شيء آخر في العالم، و إذا ما تمتع بالصبر و الإيمان و ردد أمنيته كل يوم قبل أن ينام، فإنه سوف يستيقظ و أمنيته محققة. لقد كانت هذه الأمنية السبيل الوحيد لكي يحيى أدم.

في يوم من الأيام، عاد أدم من عمله و الغضب يعلو وجهه، نفس العمل البئيس الذي يقدم فيه جهد شبابه، و يجني منه فتات خبز قليل، لقد ضاق ذرعا بالحياة التي كان يحياها، و كان في تلك اللحظة يفضل الموت على ألا يعيش ثانية أخرى على الأرض. اتجه إلى الغرفة التي كان يشاركها مع اخوته، أمام انظار عائلته المجتمعة حول مائدة صغيرة أمام الباب، بغضب أغلق الباب من ورائه، و ارتمى على سريره البالي، ثم أغمض عينيه و هو يردد: أتمنى أن أصبح الإمبراطور. رددها و هو يحاول أن يكبح صوت النحيب الذي يرافق أمنيته. بقي على هذه الحال حتى غالبه النعاس.

في جهة أخرى من البلاد، كان الإمبراطور مستيقظا، يستمتع بإحدى لياليه الجامحة، متناسيا دوره نحو امبراطوريته، مستسلما لنشواته. في وقت متأخر من الليل، اتجه نحو غرفته، طلب أن لا يتم ازعاجه في الغد و استلقى على سريره، ثم غط في نوم عميق.

فتح أدم جفونه، قاوم رغبته في النهوض، فهو لم يحس من قبل براحة مثيلة بتلك التي أحس بها لدى استيقاظه. مد يديه متثائبا، و استغرب عندما لم تقرب كفه حافة السرير. قفز من مكانه بسرعة، فطن أن السرير الذي يقبع جسده فوقه أكبر من سريره البالي الذي اعتاد أن ينام فوقه. وجه بصره إلى كل ما يحيطه، نظر إلى كل زوايا الغرفة الواسعة التي كانت بلا شك مكانا آخر غير الجحر الذي يشاركه مع اخوانه عادة. لقد كان في غرفة أكبر من كل أمل تمسك به يوما. كان قلبه ينبض أشد نبض، لأنه كان مرتعبا مما يحدث حوله. حوَّل نظره الى ما كان يرتديه. رداء طويل أبيض من حرير، يداعب جسده بلطف. بدأ يجول الغرفة و يستطلع كل تحفة زُينت بها، إلى أن لفتت نظره مرآة في إحدى زوايا الغرفة، فمشى إليها مسرعا راغبا في استطلاع شكله و هو في هذا الرداء الحريري، لكنه عندما وقف أمام المرآة صدم بأن ملامح وجهه ليست التي اعتاد على رؤيتها في المرآة، لقد كان يحمل رأسا أخرى على كتفيه، رأسا بوجه الإمبراطور. في تلك اللحظة، أدرك أدم أن أمنيته تحققت، و أنه أصبح الإمبراطور.

سمع دقا بالباب، بخوف تقدم نحوه ، فزعا من أن يتم اكتشاف أنه ليس الإمبراطور. فتح الباب، فدخل أمامه ست خدم يحملون في أيديهم أردية حريرية مختلفة، اجتمعوا حوله ليساعدوه على تغيير ملابسه، و اختيار ردائه. لم يكلمه أحد بدون إذن، لقد كانت مهمتهم الأولى إسعاده، و جعل أوامره محققة. بعد ذلك أخده الخدم نحو غرفة أوسع، مطلة على البحر، في تلك اللحظة فطن أن القصر الذي وجد فيه في تلك اللحظة هو نفس القصر الذي يحتكر جل شاطئ المدينة. تسارع الخدم لتلبية كل طلباته، و تم احضار كل ما تمنى على مائدة افطاره، و لأول مرة في حياته، أحس أدم أنه كان يعيش، يتنفس، و يحيى، و داق طعم السعادة لأول مرة عندما أصبح مركز الإهتمام. بعد ذلك تم إخباره أنه سيركب عربته الجديدة، و يطل منها على شعبه خلال موكبه في نهاية اليوم، فتحمس للفكرة تحمسا شديدا.

ركب العربة، ثم بدأت هذه الأخيرة في التحرك، و أخد يرى المدينة بأعين الإمبراطور. كانت تبدو حية و جميلة و كأنها لا تشوبها شائبة. في لحظة ما أخبره خادمه بأن عليه أن يطل من أعلى العربة، و يلوح لشعبه، ففعل ذلك، و سر أشد السرور عندما سمع عبارات الحب و التفاني من الشعب الذي يلاحقه و يصرخ من وراءه. لقد كان ذلك عجيبا، .فالجميع يصرخ بحنق و يحاول أن يستجديه ليساعدهم، لكنه لم يكن يسمع ذلك، فبقي يلوح بيده مسرورا

توقفت العربة، و أخبره الخادم بأن الشعب سيستقبله بالهتاف قبل أن يدخل المعبد، فتحمس للفكرة، و بدأ يتخيل كيف سيكون إحساسه عندما يقدم عملة ذهبية لفقير ما، و كيف سيطبع هذا الأخير قبلة على يديه الناعمتين، و كيف سيهتف له الجميع عندما يدخل المعبد. خرج من العربة ببطء، حراسه يحيطون به، و هو يحوم في غبطة عميقة، غبطة منعته من أن يرى شخصا ينبثق من بين جموع الناس حاملا مسدسا مصوبا نحو جمجمته. في لحظة قصيرة، عم الهدوء، في لحظة قصيرة، كانت جثة الإمبراطور على الأرض، في لحظة قصيرة قرر الشعب أن زمن الإمبراطور انتهى. في اليوم الذي تحققت فيه أمنية أدم، في اليوم الذي أصبح فيه امبراطورا، كان الناس قد سأموا أشد السأم من استبداد الدولة و طغيان الإمبراطور، و قرروا وضع حد لكل هذا. في اليوم الذي أصبح فيه أدم امبراطورا، أشرقت على البلاد شمس جديدة، شمس الحرية، بينما استيقظ الإمبراطور الحقيقي في غرفة صغيرة بين أفراد عائلته الجديدة اللذين احاطوه في عناق طويل محتفلين بحرية البلد و بفرصتهم الثانية في الحياة.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى