حلم
عزيز أمعي .المغرب
أنا لم أكتب هذه الرواية و لا أعرف شخوصها ولا أحداثها ولا حتى الهدف من كتابتها.
لا أكتمكم سرا أنني كثيرا ما تقت لكتابة رواية أنحت أبطالها من صخر الواقع، أنفخ فيها الحياة كي تعبر بصدق على أديم الورق عن معناتها، أحلامها وكل ما يخالج جوانحها من أحاسيس إنسانية صادقة.
كل هذا تمنيته، حلمت به، لكن هذه الرواية التي اتهم باجتراحها، صدقوني لم أخطها قط بيدي، ولم يلامس موضوعها بنات أفكاري.
-هل أنت كاتب الرواية؟
جاءني السؤال المكرور مرة أخرى، شعرت به يخترق طبلة أذني كخازوق من لهب. تأملت الرجل الذي طرح السؤال والذي كان يجلس في الطرف الأخر من المنضدة على كرسي وثير ناعم. صوته الخشن لا يناسب وجهه الضامر الذي يشبه وجه دجاجة مسنة. صلعته الوضاءة شعر فوديه المنسدل بغزارة على كتفيه يمنحه مسحة غريبة يشبه إلى حد بعيد تلك المخلوقات العجيبة التي تقدمها شاشات السينما والتلفاز كلما كانت بصدد الحديث عن كائنات شريرة قادمة من كواكب نائية تريد غزو الأرض.
قطع علي الرجل لحظة التأمل قائلا :
-لآخر مرة أسألك هل أنت من كتب الرواية؟
فجأة تملكتني رغبة لا تقاوم في الضحك، فانطلقت أضحك بشكل هستيري حاولت جاهدا أن أسيطر على نفسي وأقمع ضحكي لكن دون جدوى. تصرفي هذا أثار حفيضة ودهشة الرجل الذي ظل ومنذ جلوسي قبالته ضابط النفس.
ملامحه الفولاذية لا تشي بأي تأثر انساني كأن هالة وجهه قناع استعاره من زبانية جهنم ليرعب به الآخرين. شعر الرجل أن ضحكي قد أصاب هيبته في الصميم، وليعيد للموقف وقاره المستحق هوى بقبضته الفولاذيةعلى المنضدة فصدح دوي كدوي الرعد ارتجت له جنبات الغرفة الفارغة التي كان يتم فيها الاستنطاق.
قال الرجل وشرر الغضب يتطاير من عينيه الضيقتين :
-تبا لك ..ما الذي يضحكك؟
قلت وأنا أشعربموج من الرعب يتدفق إلى دواخلي:
-معذرة سيدي، لم أقصد أن أهينك أو أحط من قدرك.. لكن .
نبر الرجل بغضب قائلا:
-لكن ماذا..هيا انطق.
قلت بعد تردد قصير :
-أخشى سيدي أن لا تصدق ما سأقول .
-قل ما عندك وسنرى .
لذت بالصمت لثوان معدودات، استجمعت ما تبقى من شجاعتي ثم قلت :
-سيدي المحقق، لقد دخلت هذه الغرفة التي أتواجد فيها الآن معك عشرات المرات. محققون قبلك سألوني نفس السؤال، وأجبتهم جميعا بأنني لم أكتب الرواية التي يصرون على أن ينسبوها لي، بل أخبرتهم أنني لست كاتبا بالمرة فأبى الكل أن يصدق قولي. عذبني رجالهم أشد العذاب، ثم انصرفوا دون أن يفلحوا في جعلي أعترف بالمنسوب إلي. ها أنت تحل محلهم، وتجلس على نفس الكرسي، طرحت علي أنت أيضا نفس السؤال . سأجيبك كما أجبت كل المحقيقن قبلك، ستثور ثائرتك وستأمر مساعديك بأن يجبروني على الاعتراف، سينهالون علي ضربا ورفسا وسأظل مصرا على أقوالي لا تغيير ولا تبديل. ستغادر الكرسي دون أن تحقق أربك مني ليأتي محقق آخر يبدأ معي نفس اللعبة من جديد. سأخبره عنك وعن الآخرين قبلك، سأهيب به بأن لا يلح في السؤال وأن لا يغويه الكرسي ويتشبث به،لأنه لو دام لغيره ما وصله. سيغضب هوأيضا و….
قاطعني الرجل وقد انسلت الدهشة من حصن رصانته وقال :
-ويحك لم أفهم من هديانك ولا كلمة .
قلت موضحا ما استعصى على فهمه :
-سأشرح لك الأمر وإن كنت أشك في أنك ستصدق ما ستسمعه مني. اعلم سيدي أن وجودي ووجودك في هذه الغرفة ليس حقيقيا..أنت لا تعرفني ولا أنا أعرفك، والرواية أصلا ليس لها وجود. كل ما في الأمر هو أنني الآن نائم وقد وقعت بشكل لا ارادي في شراك حلم لا أستطيع لحد الأن التخلص منه. أنت وأنا وكل من سبقك من محققين مجرد شخصيات فيه، وأنا أحاول جاهدا وباستماتة سيزيفية أن أقذف بهذا الحلم اللعين خارج دماغي وبذلك أخلصك وأخلص نفسي من هذا العذاب.
لم يستطع الرجل أن يتمالك نفسه، فجأة تمزق قناع صلابته هوى جدار حزمه ورصانته صفق بيديه وراح يضحك بدوره وكأنه أصيب بنوبة جنون.
بقيت صامتا أنظر إليه وهو يضحك طويلا، التمست له العذر. أمر طبييعي أن لا يصدق قولي لأن ما رويت له لا يستسيغه عقل لبيب.
توقف بغتة عن الضحك، استعاد وجهه قناعه الجهنمي. صمت هنيهة ثم قال :
-جميل ..والله جميل..إذن أنت، أنا وهذه الغرفة لسنا سوى أشباح تسبح في يم حلمك.
قلت بصوت متهدج :
-آسف سيدي ..لكن هذه هي الحقيقة التي حاولت أن أقنع بها سلفك لكن دون جدوى، لو أن أحدهم صدقني لكنت الآن مستيقظا من هذا الكبوس اللعين.
قال المحقق ساخرا :
-تعني أنه إذا خالفت غيري وصدقت مزاعمك، ستستيقظ من منامك وأتبخر أنا في سديم العدم .
همست :
-بالضبط ..وأتمنى أن لا تقع في الخطأ الذي وقع المحققون السابقون قبلك فيه.
قال بتهكم :
-وما هو خطؤهم أيها الحكيم؟
-جميعهم كان على يقين أن ما يوجد في هذه الغرفة حقيقة لا مراء فيها، وبما أن الانسان يركن إلى الأجوبة الجاهزة، ويرفض طرح الأسئلة الصعبة، فإن أيا من المحققين لم تكن له الجرأة على التساؤل حول إمكانية الصدق فيما أدعيه.
أعلم أن الكرسي هو السبب كثرة الجلوس عليه تعمي وتصم، تتعطل الحواس ويغتال الفكر الذي من طبعه التساؤل حول حقائق الأمور. لكن على الرغم من كل هذا، أطمع في أن تخالف أنت الجميع وتكون أذكى وأبصر منهم وتقتنع بكلامي وبذلك تمكننا من الخروج من مغارة افلاطون هاته.
قال المحقق :
-وإذا لم أفعل ؟
-سيظل الأمل يحدوني في العثور على محقق يصدقني، وبذلك يخلد اسمه في تاريخ حياتي كرجل عظيم عاقل وحكيم، اقتنع أن الحقيقة ليست هي دائما ما نعتقده ونركن إليه دون تأمل وتدبر.
لم يعلق المحقق على كلامي، فتح درجا من أدراج المنضدة، أخرج كتابا ألقاه أمامي، ابتسمت بمرارة في نفسي وأنا أراه يقوم بنفس الحركة التي قام بها سابقوه. تأملت الرواية، نفس العنوان يتلألأ أمامي-العراف- واسمي مكتوب بخط دقيق إلى جانبه.
قال المحقق:
-أكيد أنك ستزعم بأن هذه الرواية ليست روايتك .
قهقه ضاحكا ثم أضاف:
-أو أنك ستزعم بأنها هي أيضا ليست حقيقية مثلها مثلي .
ابتسمت بحنق وسخرية وقلت:
-كنت أتمنى أن تكون أعقل من كل المحققين الآخرين، لكن يبدو أن لا أمل فيك أنت أيضا.
لدت بالصمت اجتاحتني رغبة قوية في التحدي، أدرك المحقق ما يجول بخلدي. ودون أن ينبس بكلمة نهض من على الكرسي. في عينيه لمحت لهيب الغضب،اتجه نحو باب الغرفة فتحه ثم خرج .
حين رأيت زبانية التعذيب يدخلون إلى الحجرة، ويتجهون نحوي. تساءلت وهم ينهالون علي بعصيهم الفولاذية، ترى كم من ساعة سأنتظر وأنا غارق في يم هذا الحلم الوبيل قبل أن أعثر على محقق عاقل يصدق مزاعمي وبذلك أتمكن من الاستيقاظ.
بقلمي -عزيز أمعي
المغرب
رقم الهاتف:212700024724