ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : حلوة وفيها الطمع . مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمد حليم . مصر

مسابقة القصة القصيرة
يقلم / محمد حليم ..مصر


حلوة وفيها الطمع

دخل الأستاذ أحمد مكتبه مخترقاً الزحام خارجه، خطواته سريعة، جبينه معقد كعادته، رمى شنطته “الهاند” بجانب مقعده الخشبي العالي، بدأ بترتيب أوراقه، فتح الدرج وأخرج ختميه، تسلم دفتر الإيصالات وعهدة اليوم من الحاج يسري مدير المكتب. اليوم هو يوم خمسة في الشهر، يوم قبض المعاشات وهو يوم لو تعلمون عظيم، طوابير لا تنتهي من كبار السن والأرامل والمطلقات، بجانب تلال الحوالات النقدية وطلبات الاستمارات والإقرارات التي لا تنتهي.

-أتفضل يا أستاذ أحمد “الشاي”.

-شكرا يا عم أبو العنين.

بدا كل شيئاً عادياً في يوم كهذا، الوقت يمضي رتيباً بين عد الأوراق النقدية وتسليمها، وبعض “الشخطات” هنا وهناك تنطلق من حناجر الموظفين تحث الجمع على الانتظام والالتزام بالدور. مكتب بريد الكَفر الذي يقع على الجانب الآخر من شارع النصر الذي يفصل بين عالمين متقابلين متباعدين، عالم الكَفر بكل ما يحتويه من فقر وحرمان، وعالم الحي الراقي ذا الأبراج العالية والبنايات الفخمة وشركات الصرافة والبنوك والمحال التجارية التي تبيع الماركات العالمية وبينها يتوارى مكتب بريد الكَفر ذو الطابق الواحد والمبنى المتداعي. قبل عقود كانت منطقة الكَفر محض منطقة ريفية، ابتلعتها المدينة التي لا تشبع، ورويداً رويداً تخلت المنطقة عن طابعها الريفي وحولتها يد المدينة القاسية إلى منطقة شبه عشوائية، هجر إليها “الحرافيش” الباحثين عن سكن رخيص قريب من أعمالهم المتواضعة، فأضحت منطقة منسية آخرى من تلك المناطق التي حكم عليها بالتهميش، يكافح أبنائها للبقاء في عالم لا يرحم، فكان عليهم أن يردوا له صاع القسوة صاعين، وأن يبادلوا كراهيته بغضب مكتوم بالصدور سريعاً ما يجد طريقه للخروج، مواجهاً غيره من الأغيار ساكني المناطق الأخرى، فأصبح مجرد الانتماء إليها وصمة لا تغتفر. في كومة البؤس تلك وُلِد أحمد مطاوع، الذي صار الأستاذ أحمد المحاسب في مكتب بريد الكَفر وهو ما أكسبه احترام أهل المنطقة بوصفه أحد ممثلي الحكومة أولاً، وبصقته المسئول عن “القبض” ثانياً، فأصبح الجميع يتودد إليه هرباً من جحيم الطابور أو للحصول منه على خدمة تتيحها شبكة علاقاته الواسعة بغيره من موظفي الحكومة بحكم عمله كمسئول عن صرف المعاشات والحوالات النقدية بمكتب البريد الوحيد بالحي الشرقي للمدينة، تلك المهمة التي قبلها الأستاذ أحمد عن طيب خاطر، رغم الإجهاد والمسؤولية التي تقع على عاتق حاملها، لما تحتاجه من تركيز لعَد “الفلوس” وجهد “للمناهدة” مع الناس، إلا أن الأستاذ أحمد لم يتردد لحظة في القبول بهذا الدور حين عُيّنَ بالمكتب، وهو ما أراح الحاج يسري مدير المكتب من مشاكل “التعجيز” بالعهدة ومراجعة كشوف القبض والحوالات يومياَ للكشف عن سبب العجز أو الزيادة بالخزنة.

قبل الوظيفة لم يعدُ الأستاذ أحمد كونه الواد أحمد “بُرّؤ” أو “برؤة” نظراً لسمت عينيه أوقات الغضب أو التفكير، فالأستاذ أحمد أو الواد أحمد برؤة اعتاد على التحديق بوجه مُحدثه بالمواقف العصيبة، التي تنوعت بين “تسميع” الدرس وبين الخناقات التي هُزِم بها جميعاً، حيث لم يملك “برؤة” بنيان قوي أو قلب شجاع يجعله نداً لأبناء المنطقة الصَيع على حد تعبير والدته الست أم أحمد، فقط كانت لديه تلك النظرة الحادة الممتزجة ببعض البَله التي أكسبته لقب برؤة.

لا أحد من الجمع المزدحم خارج أو داخل المكتب المتراص أمام الشباك فَهِم لِمَ علا صراخ الأستاذ أحمد. لم يشهد الحادثة سوى شيماء سالم وزوجها أحمد الرُبع والحاج يسري مدير المكتب.

-“يلعن ديك أمك، يا خول، أخرج من هنا وغور من وشي”.

تعالى الصخب واختلطت الأصوات:

-أهدى يا أستاذ أحمد، حصل أيه يا اخوانا؟

-عيب والله الكلام دا يطلع من موظف محترم!

-أكيد الواد الرُبع قل أدبه.

من كانوا بالقرب من الشباك رآوا الرُبع يجر زوجته شيماء ويسبها بأقذع الشتائم بصوت مكتوم متوعد، ولكن أحداً لم يرى الرُبع يوجه كلمة واحدة للأستاذ أحمد، الذي ما إن رآى وجه شيماء المتورم من أثر علقة زوجها حتى انفجر في الشتائم والصراخ، بل ووصل الأمر حد محاولة ضرب الزوج بحذائه، لولا تدخل الأستاذ مصطفى الذي انتزع الحذاء وأخذ الأستاذ أحمد بعيداً بمعاونة باقي زملاءه وهو سادر في صراخه وسبابه.

كانوا أطفالاً يلعبون الكرة بجوار أرض مصنع اللبن المهجور، كأن أصغر اللاعبين وأقصرهم قامة، فكان عليه أن “يقف جون” وأن يذهب لإحضار الكرة حين يرسلها أحدهم بعيداً خارج أرض الملعب، في إحدى المرات ذهب ليحضر الكرة فَسمِعَ صرخات استغاثة بالجوار، قاده فضوله لاستطلاع الأمر، فوجد الرُبع زميله “السقيط” بالفصل الذي يكبره بأربعة سنوات، يحاصر شيماء سالم، هو وولدان آخران، يحاولون التحرش بها وهي تصرخ وترتعد خوفاً، تسَمرَ بمكانه لم يدر ماذا يفعل، ولم يدر لِمَ لم يتدخل حينها؟ كاد قلبه أن يتوقف وقتها وهو يرى المسكينة منكفئة على بطنها والرُبع يُنزل سرواله بعد أن جردها صاحباه من بنطالِها، وهي تصرخ بأمل معدوم في الفكاك، أحس وقتها بالقهر وبالغيرة تنهش قلبه على الفتاة التي يُحبها، والتي لم يجرؤ سوى على الابتسام إليها حين تلتقي عيونهما خلسة أثناء الحصص، ها هي تجثو الآن على ركبتيها وها هو يقف عاجزاً عن التدخل لإنقاذها، مرت لحظات بدت أعماراً وهو متسمر بمكانه يشاهد الموقف، حتى حدثت المعجزة وأنشقت الأرض عن غفير المصنع الذي أنقذ المسكينة باللحظات الأخيرة.

لم يحك الحادثة وقتها لأي أحد، دفنها بقلبه دهوراً، منذ ذلك اليوم لم يقو على النظر في عين شيماء مرة آخرى، شيماء التي اكتفت بالإعدادية وعملت بفرش الخضار مع والدتها لتعول أخوتها الصغار بعد موت والدها المريض، بل لم يقو على النظر إلى سواها، فقد ظلت تلك الحادثة حائلا بينه وبين بنات حواء فترة طويلة، في الإعدادي والثانوي والجامعة، إلى أن سَمِع يوما بخبر زواج الواد الرُبع بشيماء، التي سئمت من مضايقات “اللي يسوى واللي ميسواش”، ومن طمع كلاب السكك في جسدها الفائر.

مرت سنوات وتزوج الأستاذ أحمد، وظن أنه قد تجاوز عقدة شيماء، التي كانت تزوره في مكتب البريد كل فترة لإيداع بعض الجنيهات في دفتر توفير خاص بها، تحسباً لتقلبات الأيام، حتى عَلِمَ به صدفة زوجها الرُبع الذي ألقمها علقة ساخنة بدعوى استغفاله، وأصر على ذهابها معه لمكتب البريد لسحب المال.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى