ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : حَبسٌ ما. .. مسابقة القصة القصيرة بقلم / عمارة يوسف. الجزائر

حَبسٌ ما.

(قصة قصيرة)

كتابة وتأليف: عمارة يوسف.

البلد: الجزائر

     الخوف كَيانا مَرئيا حينما نُلهي قلوبنا بدغدغتهِ، يصيرُ وَحشا يلتهمُنا ثم يستفرغنا بكلّ قذارتنا المُتعلّقَة بأبداننا، كالتمرة الممضوغَة نخرجُ من مخاضهِ، نستحيل إلى قطعة واهِنَة تجولُ الشوارع وتمشي في الأزِقَة. تفزعنا أبواقُ السيارات وضجيج المارَة، وهناك من يرى الضوء الأحمَر لعمود إشارات المرور وكأنّهُ عينٌ تتوعّدهُ بالجزاء.

     ماذا لَو أصبحَت حُريّتنا في قبضة الخَوف؟

    وأصبحَت الشوارعُ والبيوت والمعابد والغابات تتشاركُ جميعُها في دحضِ حُريتنا، عَن طَريقِ نبذها لتواجدنا..

    في وقتٍ قريبٍ قد مضى كانَ التمرّدُ يحتلُّ نَفسي، والتعاظمُ يُلطّخُ دَمي بلونهِ المائل إلى لَون الرَمادي الذي كانَ يُزيّنُ سترات جنود النازيَة، واليوم! وفي الساعات الأولى للصباح عندَ استفاقَتي من رُبع نومَتي المُرتبكَة، قضيتُ النهارَ في عصرِ محكمٍ للَحمَةِ قلبي، مُتأمّلا كلّ السبُل التي تجرُّ الهلَع والتوجّس إلى داخلي، انتابَني شعورٌ ذكّرَني بلقطة من فلم سينمائي أمريكي أينَ أشارَ أحدُ أبطالهِ إلى صاحبهِ وأخبرهُ بأنّهُ رجلا ميّتا يتمشى، الشعورُ ذاتهُ عصفَ بدايَة يَومي، أنا بالكادِ رَجلا ميّتا أفاقَ ولا يعلمُ ما عليهِ فعلهُ.

 مُتواجدٌ في هذه الأثناء داخل أسوارِ سجنِ المَدينَة، أينَ تُقيمُ الآفات ويَعيشُ الأذى، هناكَ طابقان مُتقابلان عاتمان وكأنَّ النور لا يَصلُ إليهم، تظهران كجبلَين من الكهوف المُتداخلَة، لهذا سُمِيَ بسجنِ الكهوف، الاختلالُ في إرساء الزنزانات والأدراج أغرقَ السجناء في أزمة الفوضى، لا أحَد يتجاوز مدة عقوبته دونَ تعلّم مُلوّثات جَديدَة تطمرُ دماغه، وساعة هدوء في هذه المنطقَة تحصرها ساعاتٌ مَديدَ’ من تبادُل الضرب بينَ سجينين أو جماعتَين، أو قِتال يَنتَهي بالدّم، أو بولادَةِ ثأر جَديد يتأجّلُ قضاؤهُ إلى حينَ هدوء ثورة الأنفُس. يَسكنُ ويَلتحقُ بسجن الكهوف كلّ ماقتٍ للقانون، صَنَعتهُم الأيام من عَجينة واحدة.

 كلّ مُعمّرٍ هنا بدأ بقتلِ قلبه كأوَّل جريمة لهُ، ثم أدانَهُ بتهمة الاكتراث، لينسلخَ بعدها إلى جسدٍ فَجّ لا تسري فيهِ الحياة، وبقلبٍ مُتجمّد لا يعرفُ الاهتمام بالعواقب، هناك تعلَّمَ الجَميعُ الكراهية والعَداوة، فتشكَّلَ عالمٌ يُبيحُ ويُحرّم سلوكَ قاطنيهِ كما يشاء، يتحكّمونَ في الخَوف وكأنّهُ إرادة بحتة، يقرّرونَ متى يشعرونَ بالخوفِ ومتى يدوسونهُ تحتَ نِعالهُم. هنا موطنُهم ورَيعانَ تدنّس ذواتهم، واحد من أخطر الأماكن.

 هؤلاء يكتسبون شهرة بالغَة في كامل الأزِقَة، لأنّ البلطَجيين أينما كانوا لهُم إبداعا خاصا في اقتراف الخطايا والجرائم، فالسّارِق الذي يَسطو على عجوز واهنَة في طَريقٍ ضيّقة وفارغة، لا يعمُّ ذكرهُ وسطَ العامَة مثل الناهبُ الذي داهمَ فيلا فَسيحَة في وضح النهار وتحتَ ضَوء الشّمس، لينتشلَ قِلادة وأقراط الذهب ثم يتّخذ الباب الرَئيسي منفذا لهُ. وكلّما أبدى الحَرامي ميزة مُعقَّدة في جُرمهِ، تستفحلُ فرصة عدم اعتقالهِ أكثر، لكَونهِ جاءَ بشيءٍ عُقام يُعسّر بهِ تحقيقات الأمن، ولهذا فالمُحترفون يَعلمون جيّدا نُهُجَ البقاء خارج السجون عكس المُبتدئين.

   اليوم صرتُ واحدا منهُم، هذه الزنزانةُ كانت ترقبُ حضوري منذُ وقتٍ طَويل. بل وُلدتُ فيها، هذه الزنزانةُ شقّتنا، وسجن الكهوف حيّنا، ومدة العقوبَة هي مكوثنا، هنا استلذَ ثغري حَليبَ أثداء أمي، وهنا داخل هذه الغرفة التحمَت عِظامي وخَشُنَ صَوتي. غرفَتي تنتَمي إلى حيّ الكهوف الذي صارَ كالسجنِ يخنقُنا، كلّ ذرة في هذا الفضاء قد يبدو لها أذرُعا طَويلَة تُحاولُ خنقنا للأبَد، قمتُ في هذا الصباح وأنا مُدرِكٌ لهذه الحَقيقة.

     صرتُ أتصوّرُ خلعَ باب غرفَتي في أيّ دقيقة من طرف أحدهُم لإراقة دَمي بينَ أقدامه، سيدلفونَ المكانَ للانتقامِ من أجل شيء ما. نظراتي تجلب لي المتاعِب، نكتسبُ أيضا أعيُنا جَديدة داخل هذا السجن منذ بلوغنا، ننظرُ بها إلى أَعيُنِ خصومنا طَويلا ثم نُقرر نيلَ فضلَ السبقِ في الهجوم عليهُم من عدمهِ، يَدي البَتول فقدَت عُذريتها قَديما في فمِ رَجلٍ تركتُ أسنانهُ تلمعُ دما أحمرا بارِقا. طيلة حياتي المُثقلَة بالمتاعب لَم أتخيَّل عَيشي لمآزق مُتماثلَة، هنا الطموحُ يصبُّ في التغلّب على المأزَق السابق، فمأزَقي الجَديد تجاوزَ بجموحهِ أسوارَ هذا السجن، مهمّة قد تبدو مُستَحيلَة.

     أرتعبُ أيضا من طَريقة الهروب، والخطّة التي تأتي بعده، ان كانَ أحدٌ هنا لا يعرفُ اسمي فهوَ يعرفُ جذورَ عائلَتي، ومكانَ ورقمَ سَكَني، سيتذكّرونَ لحيَتي الوافرَة والسوداء، والوحمةُ البنفسجيَة التي تترأسُ قمّة ذقني أيضا، وربما قامَتي وشكلَ أنفي كذلك.

   قمتُ إلى خزانة ملابسي ونبشتُ الكنز الوَحيد الذي كنتُ بحاجة اليه، ماكِنة حلاقة الشعر، ثم أنزلتُ على وَجهي تَمشيطا دقيقا استأصلتُ من خلالهِ آخرَ بقايا شعيرات ذقني، فأعدتُ هيئة شبابي، وكربُ الوحمة تلك ظلّ يتفاخرُ بشموخه ورسوخه، لا شيءَ يَمحوها غيرَ ماكياج مُحترِف، أما الآن فضمّادة بيضاء صَغيرَة قد تَفي بالغرَض وتجعلُني أبدو شخصا آخرا.

  قبلَ استعدادي للهروب الأنبل في حياتي، رأيتُ هاتفي يهتزُّ مُحدثا ضجّةً انتبهتُ لها أخيرا، ذكّرَني ضوءُ شاشتهِ بأنّني ما زلتُ أحتفظُ بحواسي، لَم أفقَد شيء بَعد، أحمدُ الرَب، ثم استقمتُ وحدقتُ إلى رقمَ هاتفَ أبي، سبع اتّصالات فائتَة، كلّها كانت بنفس الاهتِزاز والرَنَّة، لكنّ استعدادي لدخول العالم قد بدأَ للتَو. أبي لا يعرفُ تمديد وقتَ الاتصال بينَ الحالي والذي يَليه، بَل يجعلُها اتّصالا واحِدا طَويلا لا يتخلّلهُ وقتا مُستقطعا، وعلمي الصَّريح لمُخلّفات زلزال هاتفي جعلَني أؤجلُ مُعاودة الاتصال بهِ، غالبا ما سيَكونُ سؤالهُ تحديثات يَومِيَة لِما يَجري من حَولي.

     لكن!

     فكّرتُ أيضا بالتخلّص من هاتفي، لتكتملَ عملية الهروب المثالي.

   ثم قررتُ أنَّ وقت الرَحيل من هذا السجن المُخزي قد حان، لَولا مُكالمة أبي! كنتُ وَشيكا على الانفلات من مخالب الألَم التي دأبَت غرسَ جذوعها في جلدَتي، رددتُ على اتّصالهِ الثامن أخيرا، قالَ أنّ جماعةً قد تسببوا في هشمِ وجههِ، وحوَّلوا الثأرَ كلّهُ على بدنهِ الهَزيل وجعلوهُ كالشاة المسلوخَة، لأنَّني كنتُ طيلة هذا الوَقت مُتخفيا كالفأر المُتخاذل.

   منذ اللّحظة تلك، جعلتني المُكالمَة عدُوا لكلّ الناس، بسببهِا نتجَ في نفسي اشتهاءً للانتقام، تعلَّمتُ لغة واحِدَة صِرتُ أُخاطبُ بها العالم، لغة لَوعَة إلحاق العِقاب بالآخَرين. كنتُ على بعدِ خطوات ضئيلَة عن الإقلاع، رأيتُ ذاتي قد أوشكَت على تعديلِ اعوجاجها بنفسها. لكنّكَ يا أبي ذكّرتني بانتمائي الحَقيقي لا أكثر.

 تمنَيْتُ لَو أنهُ يوجَد شيء يُدعى وقتا مُستقطَعا من العالم، أو هُدنة سلام بيني وبينَ الدُنيا، ماذا لَو حدثَ ذلك حقا؟ لَوجدتُ نفسي ربما أوَّلَ من ينقض الهُدنَة بيدهِ، فهَل ستَكفينا صفقة سلام مع العالم من دون اتفاق صادق معَ أنفسنا بالذات؟ لَو كان سَديدا أنّنا نشعرُ بالرضى والتصالُح بمجرّد كَف العالم عن مهاجمتنا، أينَ يُصنَفُ شرَّ الإنسان بينَ بقيَة الذِمَم؟ إذ بينما تَحثُنا الفِطرَة على مُتعةِ جنسيَة واحدَة تحدثُ بين المرأة والرَجُل، أرَدنا بحماقتنا إثباتَ تطاوُلنا عليها فأعطينا الضوء الأخضر لمُتَع الشياطين الكثيرة بالانبثاق، لتصبح مُشاهدَة حصان وهو يحظى بتدليك ناعِم على جذعهِ الطَويل شيئا لا بأسَ به، أو كالأفعال الشاذة المُخترعَة لجعلِ الممارسة العاديَة للحُب تبدو في شكل مُبتذل مُنتهي الصلاحيَة. وكمْ من مَطِيَّة سأعوزها لتَسويغِ خيانتي غير المُبررَة لإخوتي ووالديَّ ونفسي؟ أليسَت الدُنيا نفسها تُقدّمُ لنا الخير مكتوبا على ظهرهِ تعليمات مَيسورَة يجب اتّباعها لمَن يُريد الظفر بهِ، لكنني اخترتُ بدلَ ذلك تعليمات الخبث التي تقترحها قلوبنا وعقولنا في الغالب.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
5 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x