ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة (رحلة إلى الشمس) مسابقة القصة القصيرة بقلم / أميمه عبد العزيز عبد الحميد .مصر

 

فئة القصة القصيرة
الاسم / أميمه عبد العزيز عبد الحميد
الدولة /مصر
 
رحلة إلى الشمس
 
اليوم إتخذت قرارى بالسفر إلى فرنسا لزيارة المدن التى عاصرت أوج نشاط الفنان الأسطورى (فينسينت فان جوخ) لعلى اصل إلى سبب الإرتباط بين لوحاتى ولوحاته ..والشعور الغريب الذى يمتلكنى وانا أمسك بالفرشاة وكأن يدى ليست ملكى وهناك من يتحكم بها , و بعد البحث وجدت أن لوحاتى تسيطر عليها ألوان فترة حياته فى جنوب فرنسا , عندما هرب إلى دفئ الجنوب ليرسم الحقول الخضراء الشاسعة و الألوان المبهجة التى كان يحتاجها للتخفيف من نوبات الإكتئاب التى كانت تهاجمه ..
غلبنى النوم طوال الرحلة وبمجرد وصولى إستأجرت سيارة أوصلتنى إلى فندق صغير,, وضعت حقيبتى فى الغرفة التى تطل على بعض المبانى القديمة التى ذكرتنى بالمبانى العريقة فى الإسكندرية و القاهرة الخديوية و فى الزاوية إلى اليمين وجدت برج إيفل بارتفاعه الشاهق و طلته الساحرة ..
اردت استثمار كل لحظة فتوجهت إلي متحف اللوفر فلم يكن لدى سوى يوم واحد بباريس ولذلك إكتفيت برؤية لوحات جوخ هناك وكان من أجمل ما رأيت لوحة (ليلة النجوم) هى مشهد رائع تمتزج فيه النجوم بحالته النفسية فقد رسمها بمشفى (سان بول دى موسول) بسان ريمى , فكانت هذه النتيجة الرائعة من العطاء ..
وبعد قضاء عدة ساعات بين لوحاته وأمام بورتيريه ضمن مجموعة البورتريهات الشخصية له , شعرت بانه يقف أمامي وعيناه تنظران إلى أعماقى وكأننى أسافر فيهما إلى زمانه , أتجول فى مشاعره المتضاربة و محاولته مقاومة مرضه والتغلب عليه ..
كنت محملة بكثير من المشاعر جعلتنى أبحث عنه وعن معاناته كفنان و مريض نفسى مر بحالات نفسية صعبة كانت أحيانا تخيف جيرانة كما حدث فى (آرل) حين اضطروا لإدخاله المصحة النفسية و التى كان يقبع بها عدة أسابيع و أحيانا كان يُمنع من الرسم ..
وفى الليل لم أستطع النوم فأحضرت أوراقى وحاولت الرسم فكانت النتيجة بعض الخطوط المبعثرة فتركت الأوراق وخرجت إلى الشرفة وكان الطقس يميل إلى البرودة فوضعت الشال الصوفى على أكتافى و أخذت أنظر إلى برج إيفل وأضوائه ,كانت السماء صحوا وقد تناثرت نجوم جوخ بها . و تذكرت ليلة أن قرر الذهاب إلى الجنوب ,فقد شعر بأنه فى سجن مكبل بالغيوم .. وكان أكثر ما يربطه بباريس هو أخيه ثيو, لكنه كان مجبرا على المغادرة حتى يخرج من عزلته بين جدران حجرته.. , فقد غضبت عليه الطبيعة ولم تمنحه ما أراد ..
زادت برودة الطقس فإضطررت للدخول و أمسكت القلم ونظرت للخطوط المبعثرة وفى لحظات صارت لوحة مكتملة .. بورتريه لجوخ , كيف إكتملت الخطوط فى ذهنى , لم أفعل سوى اننى مررت بالقلم على الخطوط الباهتة التى رسمت فى عقلى , أنهيت أخر خط وأخر انحناءة فوجدت عيناه تنظران لى بشغف و أسى وكادت أن تنطق شفتاه , وسمعت همس فى أذنى يقول : إرحلى من هنا إلى الشمس و الحقول فقد كدت أن أتجمد من اللون الرمادى لون الغيوم ..أخذت أتلفت حولى فلم أجد سوى عينيه تشقان صمت الليل والسكون ترجونى الرحيل..
جلست على السرير ممسكة بصورته حتى شعرت بالنعاس فوضعتها بجوارى حتى أيقظنى شعاع الشمس الذى أطل من الشرفة فإذا بالشعاع يغمر صورته ..
تركت الفندق إلى المحطة لألحق بالقطار ليقلنى إلى الجنوب لأمسك بشعاع الشمس الذى تعلق به جوخ فى آخر سنوات عمره بعد أن خلد حقول الجنوب فى لوحاته .
جلست بجوار النافذة اتطلع إلى الطريق بمشاعر جوخ وهو هارب من الضباب إلى النور والحقول الخضراء والبيت الأصفر الذى حلم به ليجمع الفنانيين التشكيليين .
وصلت مدينة (آرل) فى التاسعة , كانت الشمس ساطعة, ذهبت إلى فندق (دو فورام) فى قلب المدينة القديمة هناك استقبلنى شاب يتحدث العربية بلكنة شامية , إستأجرت غرفة بسيطة ذات أثاث عصرى تطل على حمام للسباحة , جلست على مقعد مريح فى أحد أركانها وفى مخيلتى لوحة غرفة جوخ كما رسمها بطابعها اليابانى بلا ظلال وجدار مائل , فما أكثر الخيال فى رحلتى هذه..
فى المساء تجولت فى طرقات المدينة, قابلت عدة مسنات تحدثت معهن عن جوخ واسترسلت إحداهن فى وصف ما كان يعانيه من هذيان وكيف كانت تهوى الرسم وتعتقد أنه أصابها بلعنة من كثرة حديثها عنه حتى صارت لا تستطيع الإمساك بالفرشاه , ولكن صديقاتها ضحكن وأبلغونى أنها تهذى , ولم أفصح عن سبب زيارتى حتى لا يسخروا مني ,وتساءلت أتكون هذه السيدة محقة أم أنا من تهذى !
عدت إلى الحجرة أبحث فى أوراقى عن رسائله لأخيه حتى وجدت رسالة يحدثه عن قطعه لأذنه قال فيها:
اليوم قمت بتشكيل وجهى من جديد , لا كما أرادته الطبيعة , بل كما أريده أنا عينان ذئبيتان بلا قرار ,وجه أخضر ولحية كألسنة النار ,كانت الأذن فى اللوحة ناشزة لا حاجة بى إليها ,أمسكت الريشة ,أقصد موس الحلاقة وأزلتها . يظهر أن الأمر إختلط على بين رأسى خارج اللوحة و داخلها …
فجأة شعرت بألم شديد فى أذنى اليسرى ..أسرعت إلى المرآة فوجدت الدماء تغطي رقبتي وملابسى ووضعت يدى على أذنى فلم أجدها فصرخت بأعلى صوتى ,فاستيقظت ..أدركت أن النوم غلبنى ..
أمسكت القلم وأخذت أضع الخطوط كما إرتسمت فى مخيلتي فإذا بوجهه يطل ثانية, وقد غطت مكان أذنه ضمادة .. كنت أدرك أنني لست فى حالتى الطبيعية وأن ما يحدث هو إنعكاس لتعاطفى مع مرضه ولكن متى سأستعيد حياتى, متى أتحكم بفرشاتى …
إنتهت أيامي فى (آرل) و ذهبت إلى بلدة ( أوفير سور أوايز) التى شهدت أخر أيام حياته ومنذ وصولى وأنا أتجول بالبلدة وأسأل أهلها عن قصة إنتحاره فى الحجرة رقم خمسة بالفندق الذى كان يقطن به وعن لوحاته التى رسمها هناك فقد قضى بعض الوقت فى حالة نفسية رائعة رسم خلالها لوحة ( الدكتور غاشي) و لوحة (الكنيسة فى اوفيرس) قبل أن تسوء حالته مرة آخرى..
وهناك ألتقيت بألبرتو وكان أكثر الفنانين المولعين بجوخ , يشبهه إلى حد كبير , له نفس قسمات وجهه الحادة و حساسيته المفرطة ..نشأت بيننا صداقة وصرت أقضى معظم يومى معه فى الحقول لنرسم الطبيعة وقبيل سفرى بأيام قليلة اعدنا إحياء البيت الأصفر ..فاستأجرنا منزلاً قديماً وأعدنا طلائه باللون الأصفر بنفس تصميم جوخ ودعا ألبرتو أصدقاءه التشكيليين, ودبت الحياة به حتى أهدينا إلى روح جوخ معرضاً كبيراً .. حينها شعرت بتحررى وكأن أخيرا رقدت روحه فى سلام ..
إنتهت مدة إقامتى .. وودعت ألبرتو وعدت إلى وطنى وقلبى مازال مهاجراً إلى الشمس فى الجنوب الفرنسي .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى