ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : رِضوانْ الروح . مسابقة القصة القصيرة .بقلم / رنيم عبد الرحمن جابر .مصر

الأسم: رنيم عبد الرحمن جابر
رقم الهاتف وواتس آب: 01559088774
الحساب الشخصي على الفيس بوك: https://www.facebook.com/reemo.gaber?mibextid=LQQJ4d
نوع المشاركة: قصة قصيرة (رِضوانْ الروح)

كان الشتاء زائراً كَئيب، والليلُ جَليٌ عديم، والنسيم عاصفاً بِريح، تأتي علينا ليالي تكون طويلة أكثر من اللازم، صعبة وغريبة، مُخيفة وغامضة، وفي كُل ليلة كان هُناك حكاية آخرى نجهَلُها ..

أقترب الوقت لِمُنتصف الليل بِقليل، في ليلةٌ شتاء سوداء بِأرضُ شهباءُ لا تستبين لها ملامح ..

تُخط بخطواتٌ ثابتة رغم اهتزاز قلبها، حتى هبت عندها نسمة هواء عالية فأحكمت الغلق على معطفها وعدلت من وشاحِهَا، وراحت تتبسم لهذا النسيم الذي توغل خصلاتها، وسرعان ما حلت الابتسامة مكانها الوجوم ..

تابعت الخطى بترانيم تَعزف على وتر قلبها كرنين الأسى ووجوم الجَوى حينَما تعلو دون واجهة مُعينة بمقصد معروف، ومقصدُها كان الهروب، من واقعًا يُفرضُ عليها الإِدامة، حتى وإن توغلهُ السكون، ففي بعض الراحة ضَنك، أي نوعٌ من الهروب هذا؟ قد تكون الزوبعة آمنه لأحدهم دونما الأخر وكأن هبوب الرياح يجلب الذمامُ لها ..

أشتد الهواء صقيع وبدت السماء تمطر بغشاوة، أغَذت بريانا سُرى دربها حتى أمتدت تُلاحق الأمطار محكمة الغلق على معطفها ..

حتى تعثرت قدميها فتوقفت بتلقائية واندهاش ملاحظة ذاك الجسد الصغير الذي أرتطمت فيه دون قصد بِفعل ديجور الليل ..

لم ترى منه إلا عينان مطفئتان بدت لها من الوهله الأولى أنه هاتين العينين أطفئها الحياة، والعجيب كونها أبصرت عيناها أشد ظلاماً منهُ، وكِلاهما شَتان بينهم..

خفضت أنظارها نحوه فظهرت لها تلك الملامح الخافتة الباهتة في مسعى الطفولة و أودج لحظات العُمرِ ..

أقتربت منهُ أكثر بعدما ارتسمت ملامحها تعبير الشفقة والحُزن التي تجعل طفل في هذا الوقت والطقس يتجول الشوارع متحفياً جوفاً وقدماً، وقد علمت أنه أحد الأغمار اليُتامى التي تفرض عليهم الحياة الهلاك ..

حاولت الإبتسام فأومأت له بحنو بعد إن أخرجت من حقيبتها الجلد الثمينة قطعة من الشطيرة لتُعطيها له بحُسن نيه ..

نتش الصغير القطعة منها دون أن يُنبأ بحرف، وبدأت خطواته تركض بعيداً تتبعها عيون بريانا بعجب، وبفضول طبعها وسُئم قلبها سمحت لقدميها بتعقبه بحزم تجهل مصدره..

لربما أبرمت مع الحياة صفقة لتروي لها قصص الحياة نفسها، لتُغرس فيها مغزى، لتزرع بها حياة، وينبت عندها أملاً، عزماً، يقيناً بأن قسمتها حانية، وأحيانًا هاوية، فقد أحبت الليل لأنهُ الواقع المؤسف الذي يمحيه النهار، وقد عشقت الشتاء لأنها تمتلك معطفاً لا يُجردهُ الهواء، ولا يُمليء قلبها خِلاء ..

توقفت عن السير بعدما رأته توقف، لترى ما توقعته النفس وكذبه القلب، وجدته على بُعد يفترش الرخام البارد ويتقاسم الشطيرة بسعادة مع فتاه بدت لها شقيقته الصغرى، وكانت وكأنها رسمة هزلية من بقايا القَش توقفت الحياة عن وضع معالمها لتترُك المجال للرياح والعواصف بالعصف بها يميناً ويساراً حد النحول والهُزال ..

بدأت الصغيرة تلاهم الشطيرة بضَرِم ونهم يتأملها شقِيقُها بإنتصار وكأنه حصل على مخزون من الكِنز، لقد كانت سعادته لا تذهب، كان شاعراً بِشبع، رغم فراغ بطنه، مستشعرًا غناءهُ بقدر خواء جيبه، وكأنه وُجد رضا نفسه ما دام يرى ابتسامة شقيقته الشاقة التي لو نُفِخَ فيها لتطايرتْ يميناً ويساراً كالورق الجاف تحت الشجر ضربتهُ العواصف، فقد ضربتها هي ايضاً .. الحياة ..

أزدادت الأمطار صيباً فتوارت بريانا عند جذع شجرة، ليتجمد الصغير ثواني فيتجمر ويلتحف مع شقيقته ثم أغمض جفونه ووعت يداه تُرابط أختهُ المردوم أمرها وبقى قلبه متيقظاً لأي أذى .. فظهروا وكأنهم أجساد مترممة بعضها في بعض شارفوا على الاختفاء ..

وتسألت بريانا في نفسها وهي ترى المشهد مِن بعيد: “كيف يؤمن الأنسان على نفسه وهو بين شظايا الحياة؟ ” أهذا ما يسمونه الرضا، فإنها لم تَكُن إلا شطيرة .. قاسَمُها مع الأمل ..

ظلت تراقبهم لحظات مستندة على جذع الشجرة وفي داخلها شعوراً بالفقد والغُربة، رغم الغِناء والارتداد، فقد يكون في بعض الُحرمان استغناء ..

بَغش المطر قليلاً، فنظر الصغير للسماء بعينان طامحتان قبل أن ينظر لشقيقته الساكنة ببشاشة لا تُناسب حالته، لتفهم هي وتبتسم بإيماءة ..

قاما الصغيران ينظرون للسماء باستمتاع لزخات المطر فوقهم، وفَد كل واحد منهم يداه على مصرعيها وكأنهم يحتضنون الحياة بسعادتهم الغامرة فهم في الأصل ابناءهما ..

ظلوا يطوفون بأيديهم حتى وصلت ضحكاتهم لمسمع بريانا في إهزاق، فابتسمت هي تلقائياً وقد عرفت أن الفقراء قد يكونوا أسعد وأغنى الناس بقلوبهم ..

لقد جنى هذا الصغير ما يُحارب الملوك لأجله، أشتري ما لا يجلبه لا المال ولا الذهب، وكانت ثروتهُ الباقية وخزائن عُمره الضئيل هي الحُبِ الباقي لباقيتهُ -شقيقتهُ- وكأنه وُجِدَ في العدم حياة تمثل له البقاء مهمشًا على أطرافها، وكأنها تُخرجهُ من سرايا حنانها، وكأنه يتشبث ببقايا آمال طوبِها ..

أصبح المطر رذاذ حتى توقف عن الصهيل، فتوقفت معها رنات ضحكات الصغيران ليعودا ويلتحفون في ملجأهم الذي لا ملجأ لهم غيرهُ، وماهي إلا ثواني حتى راحوا في ثُباتٍ عميق وقد حيرت بريانا هذه السعادة البسيطة التي يحملونها دواخل قلوبهم والراحة الغامرة التي تسكن أجلى نُقاطهم، كيف يجد الإنسان الشيء في اللاشيء؟

أقتربت منهُم بريانا بخفه تُلامس طبيعتها، وقد أمتليء قلبها بندوب عميقة تُشبة تلك الندبة التي لامست خديها بتأثر، حتى علت زمام قلبها بِبسول عاهدتهُ النفس، علمت أن الله مع المنكسرة قلوبهم بطريقة مغمورة بالرثاء، لقد آواهم الله وكان عنده أساليب ومقادير، وهو يعرف كيف يُقدر لأحد أن يعيش في الخًلاء وهو يشعر بالسكن “أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى” .

خفضت أقدامها لتُلامس الرُخام البارد، بعدما احتفت ونزعت عنها المعطف في ثوانٍ لِتُغطي به الصغيران دون أن تتفوه بكلمة ثم سارت بين دروب الدُنى مُدركة أن السعادة نسبية تكمن في روح الأنسان، لا جيبة ..

وقد أبصمت لو كان هذا الفقير تحدث لقال :أنا الغني بالحياة والفقير بقسوة بقاياها، وبقايا الحياة هم البشر، فهم زائلون، وغناء الحياة هو القلب الرحيم، وإنما أنا المظلوم والظالم، ظالم لأنني أظهر البشر بحقيقتهم فيعرفون قدرهم، وإني لمظلوم لا بسبب فُقري وعَدمي بل لإنني لم أختار أن أرى كيف يُعامل المتملك الضعيف، قنوعي في القلب لا البطن، أنا ابن الحياة و أنينُها الضائع وغُمرُها المكنون ..

في تلك اللحظات المحتشدة بالإدراك الضائع المرغوب، أنتابها ذلك الحِس غاصّ الغرابة والحيرة، وشعرت وكأن الليل أضاء دَيجور طريقها، وقد ملكت مفاتيح الحياة، فهمت أن الرضا هو فارق الشقاء والهناء، والفقر والغِناء، واليُتم والاحتواء، لم ينقصها إلا هو، به قد يكون ما لا يكون ..

خطت خطواتها الثابتة بَعد إن ثبت قلبُها، واحست ببريق يبعث داخلها بقوة لم تعرفهُا من قَبل، وكأن الرطوبة تجمدت والرياح أصبحت صلدة بعدما مزقت فيها آلاف الأسئلة الحيرى ..

وقد عرفت بريانا .. تمتلك كل كنوز الدنيا، تحمل الكنية، الشُهرة، السطوة، الذهب .. وتبقى في ضنك، لإنها لم ترضى، وقد ترى بعيناها من لا يملك كنزاً ولا فلساً، يمشي متحفي ومستور القلب والبال، لأن روحهُ أمتلكت الرضا..
“وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى”

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى