ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : زينب . مسابقة القصة القصيرة بقلم / عقيل فاخر كاظم الواجدي . العراق

عقيل فاخر كاظم الواجدي
العراق
قصة قصيرة
(( زينب ))

ماعاد مُتسعاً من الظلِّ لقدميها الحافيتين ، فالظهيرة تقضمُ ظِلَّ الجدرانِ بِعجل ، لا اثرَ للظلِّ الاّ ما تحت قدميها وعصاً تسندُها ، ، فحين تجفوكَ الحياةُ لا تستغربَ اَنْ يتخلى عنك حتى ظلّك ! مستسلمةٌ قدماها الحافيتانِ لحرارة الارض اللاهبة وهي تنسلُّ ببط ء ، اَدهشني انها لا تتعجلُ خطواتِها لتصلَ الى مأواها الذي لا يتعدى غرفةً من ( الآجر ) الذي بدت عليه اثارُ الزمن بسقفٍ من اَعمدةٍ وصفائحَ يعلوها الترابُ وسياجٍ منخفضٍ لا بابَ له ، متأنيةً في مشيتها كأنها تسيرُ على غير هدى ولا تسعى الى مكان ما.
الطلقة التي اخطأتها ذاتَ لحظةٍ هزمت كلَّ جارحةٍ فيها فما عادت زينبُ الاّ شبحَ اِمراة تخلَّت عن وجهها كلُّ الملامحِ حتى اِنك لا تكادُ تُفَسِّرُ تعبيرا لوجهها ، مستسلمٌ هذا الوجهُ للسكونِ والذبولِ الذي خطَّتهُ الايامُ بإتقان ، وحيدة ، شاردة الذهن لا تأنسُ بأحدٍ ولا تكاد تكلمُ احدا ، اِسئلة – تراودني – لا ملامح لها كوجه زينب ، اَيَّةُ امراةٍ هذه التي يشيخُ الزمانُ على وجهها متعجلا !!
ولدها الذي سرقته الوشاية تعلمُ اِنهم لم يذهبوا به بعيدا ، اِنه بقيةُ أبيه ، اَبوهُ الذي لم يَعُدْ مذ تلاشى ظلُّهُ عند اَوَّلِ منعطفٍ من الدروب الضيقة ، الماء الذي سكبته خلفه ما كان كافياً لأن يعود به ، فالحربُ عاصفةٌ هوجاءُ كلُّ الأشجارِ مؤهلةٌ للاقتلاع عندها ، قلبها الذي اِنقبضَ فجأة حتى خالتْ اِنه سيتوقف ، اِحتاجت الى رئة ٍبسعةِ باحة الدارِ حتى تُمكّنها من التقاط ِاَنفاسها ، راودتْ قلقَها بطمأنينةٍ مصطنعةٍ ضاغطةً صدغيها بأطراف اصابعها لتشتتَ خيولَ تصوراتِها التي استباحت مضمارَ روحِها وخيالِها ، اَيّةُ نبوءةٍ تسللتْ الى مخيلتها ، وَاَيُّ عينين تُربكها نظراتهما كلما التفتت نحو زوجها وهو يضعُ اشياءَهُ في حقيبتهِ الصغيرة تأهُّباً للمغادرة ، عينانِ تبسمانِ لها بشفقة العارفِ بما يدور بِخلَدِها .
– قلقلة على غير العادة هذه المرة ، فاجأها بسؤاله الذي أطاح بكل تجلدها فانزوتْ ناحبةً كطفلةٍ لا تعلم أيَّ شيء يرضيها .
– اِطمئني لازال في الحياة متسعٌ لأن نعيشه معا ، محاولة يائسة منه لترميم ما تشظّى من روحها ، اَدرك اِنَّ تفاؤلَهُ المفرطَ كشف عن حقيقة لا يؤمنُ بها ولم يكن مقنعا لها .
لم تفلح كلماتُ الاطمئنانِ التي ترنَّمتْ بها شفتاه ولا ابتسامته التي يباغتها الفتورُ كلما نظر اليها ، مُصادرةٌ هي الخيارات من اَمامه ، مُستلبة كلُّ قراراته ، هكذا حينما تكون جنديا .
فكم هو مقلق اَنْ يغيبَ الضوءُ عن الدروب الوعرة فتضيع النهايات وتغيبَ ملامحُها ، وكم هو اَكثرُ اِقلاقاً وخشية اَنْ تشحَّ الايامُ بعودة اُخرى ، الأيامُ سارقٌ محترفٌ لكلِّ الاحلامِ والامال ،
وَدَّعتهُ بعينينِ تركتْ لهما ما يكفي من الوقت ليفيضا بدمعهما ، تعقبتْ خطواتِهِ الأخيرة بعينيها قبل اَنْ تُخفيَهُ الدروبُ بين طياتها ، موحشةٌ هي النهاراتُ في قرى البسطاء ، مثقلةٌ بالترقب لا تنفرج اَساريرُ بيوتِها الاّ بعودة المغادرين .
ذاكرة ٌ مُصادرة انحصرتْ بزمنِ المغادرة كإنها آتيةٌ من اللازمانِ ولم تَطأْ روحُها سَواحِرَ الأمكنة ، الشرودُ اَركنَ نفسها الى النسيان لتخبو اَوْجرةُ الذاكرة تحت رماد قلقها ، اَيُّ قلقٍ مستفزٍ لم تعتده من قبلُ فأمسى يعتادها ! اَيُّ فراغٍ اِجتاحَ الروحَ فأَضحتْ خواءً كَقِرْبَةٍ زاملها العطشُ حَدَّ التشقق ، اَيُّ وَجَلٍ اَشْعرها اِنَّ الغدَ يقضمُ اَيامَ الطمأنينة ، مُتعجلٌ في اَنْ يصلَ بها الى النهاياتِ قبل موعدها ! ما اثقلَ الوقت وهي ترسفُ تحت وَطْأةِ تعجّلهِ ، حواسٌ معطلةٌ وزمنٌ متباطئ بتعجله ! ايّة سخرية تلك اَنْ يمتزجَ البط ءُ والسرعةُ في آنٍ واحد ليوقدا في روحها وجعاً تمنَّتْ اَنْ تفصحَ عنه بصرخة تبعدُ بها كلَّ وجلِها ، ليتها قالت له لا تذهب .. وهل يمكن !!
هو كما الكثيرين الذين بخلت الحرب حتى اَنْ تعودَ بجثثهم .

الصدفة وحدها من جعلتني اَتنبّهُ الى خروجها المبكر وهي تشقُّ بقايا العتمة نحو بياض الفجر ، الفجر الكسول الذي يجففُ بقايا الليل بضياء شاحب ، الأعمدة التي تتخلى عن اِنارتها تِباعاً تُصادرُ ملامح الاشياء ، السكون يبعث الرهبة الاّ من اصوات الصراصير المثيرة للاستفزاز وهذا الكلبُ الذي يُغيِّرُ من مكانهِ مع كل فجر ليثيرَ الفزعَ في قلوب المارة ، وحدها من لا تأبهُ لنباحهِ المفاجئ تاركة إياهُ في حيرته اليومية
الفجر الذي يستفيق على وقع عصاها يتخلى عن حلكته رويدا رويدا ليكشف عن عتمتها التي لازمتها من سنوات بالتحافِ عباءة باهتة السواد تنسدل على ثياب سود، منسحبة كسلحفاة نحو اطراف الحي الذي ينتهي عند السدة الترابية العالية التي تعزل الحي عن جانبه الشمالي.
الشتائم فَنٌّ لا يتقنهُ الاّ من فضَّ الليلُ بِكارةَ مخادعِهم، والعهرُ دِينُ الآتينَ من أقبية الشبهاتِ يتلون سُوَرَ الحقد ، شريعة الذلِّ تنشرُ عتمتها فتنصاعُ اِليها افئدةُ الذين خَبا في اَنفسهم قبسُ الحرية . البنادق التي عَلتْ فوق الرؤوس المنحنية والاجساد المتقرفصة اَفصحتْ اِنَّ خطوطَ العَرْضِ في وطني سُلَّمَةٌ لا اكثر ، فالوصاية لِمن هم في اَعلاها أبدا .
لازال صوتُ الرصاصة التي مرَّتْ من فوق رأسها مدوياً في ذاكرتها وليتها مرَّتْ في رأسها – هكذا تمنت – وفمُ الضابط الذي يقيء شتائمه وهي تتشبث بساقه توسلا ً وتقبيلاً لحذائه في اَنْ يُخلي سبيل ولدها وهم يجرونه من ياقته مكتوفاً نحو سيارة ( الريم ) ، الريمُ علامة فارقة في حياة البسطاء ،

سحبوه كما المئات غيره نحو السيارات المتأهبة للمغادرة، تزاحمت الأجساد فيها حد انقطاع الانفاس، لم تشفع له سنواته الثلاث عشرة ولا توسلات اُمهِ في اِخلاء سبيله او حتى ان تذهب معه ، هو ابن المدينة المتهمة على مَرِّ تاريخها ، المدينة التي خلعت ثوب خوفها مع اَوَّلِ طلقة دوَّت ثأراً من تسلطٍ مقيتٍ لكنها – للأسف – أضاعت بوصلتها ، فالخليج الذي ينزف حروباً ما انفك يخادعنا بأخوةٍ يُخفون مُداهم ما تلبثُ ان تنسلَّ الى ظهورنا ، هي المدينة المتمردة حتى على نفسها ، الوفية الخائنة . الجسورة الوجلة .

لازالت تأخذُ الصباحاتُ بها نحو المساحاتِ الشاسعة ما حول المزار ( مزار سيد ذهب (1)) ، المزار ذو القبة الخضراء الذي امتهن سادنه كَيَّ الأطفال رزقاً له بعد اَنْ غابت النذور ، الفقراء لا يوفون بنذورهم هكذا كان يباغت كل قادم بكلماته هذه ، اعتياده حضور زينب جعله لا يأبه كثيرا لحضورها ، لايعدو اَن يراقبها عن بُعدٍ وهي تنبشُ الارضَ بطرف عصاها بخطىً مُتئدةٍ وبعينين تتفرسانِ الارضَ كأنما تبحثان عن شيءٍ اَوْ بانتظارِ اَنْ تعترفَ الارض لها عمّا تخبئه فيها .
– قالوا هنا ؟ لكن اين !
كلمة لا تنفك عن ترديدها مع كل خطوة . هذيانٌ تموسقه بنواحِ ثكلى ، الجنوبياتُ أمهاتٌ من شَجَنْ ، متواطئة هذي الارض بلاشك ،
فمن اَغلق فَمَ الارض عن البوح ! اَيعقلُ اَنْ يتسلل الخوف حتى الى الارض !! منصاعة لهم هذه الأرض حدَّ الخَرَسِ في كتم شهادتها . الحفرة التي اِبتلعت المئاتِ دفعة واحدة أضاعتْ ملامحها ، لاشك انها – الأرض – كذلك تخشى الوشاية .
الوشاية التي تطرقُ بابها في كل مساءٍ بِخُفَّيْنِ يُفصحانِ عن القادم ، اِنّهُ أنور اَو الشيخ أنور كما يحاول اَن يُرسخ هذه التسمية في اَذهان الناس ، فالمسمياتُ قادرة على إزاحة الماضي بحاضرٍ مؤطرٍ بالهيبة والحظوة ، وحدهُ الماضي من لا يملك فرصة الدفاع عن نفسه ، ساذجون هم الأوائلُ الذين اتخذوا من تغيير الأمكنة بناءً لحاضرٍ لا ماضٍ له ، الآن حاضرُكَ يجتثُ ماضيك من غير اَن تحرك ساكنا ، بِطَرَقاتٍ حاول – أنور – اَنْ يمنحها الاتزانَ والايقاعَ المنتظم توزعتْ أصابعه التي يجاهد اَن لا تنخدش من اَثر الطَرَقات – على رِقَّتِها – على الباب ، وقتٌ طويلٌ حتى تنفرج اَسارير الباب عن وجهٍ بلا ملامح يعتريه الاغضاء غير المبالي لتعودَ اَدراجها بعد اَنْ يُنهي سؤاله المعتاد : كيف حالك يا زينب ؟ .
1- سيد ذهب : ضريح لأحد السادة الهاشميين يرتاده البسطاء من الناس لطلب حوائجهم من الله عنده .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى