ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : سحابة من الذكريات . مسابقة القصة القصيرة .بقلم / شنودة بشارة .مصر

قصة قصيرة

سحابة من الذكريات

كأنها سيمفونية عذبة ..
” كان المطر يهطل بغزارة، ليعزف على أوتار الأرض المبللة، ويتراقص على نغمات الرياح الباردة، التي تداعب وجه دكتور نبيل، وهو يتحسس خطواته وسط بركة المياه أمام المستشفى “.
في ممرٍ طويلٍ بين الغرف، يسير دكتور نبيل ..
شاب ثلاثيني، ذو قامة طويلة، وبشرة خمرية، وشعر أسود مجعد، مرتدياً بالطو أبيض، ويطل من عينيه البندقيتين وهج الشباب، على صدره تتدلى سماعة طبية، كأنها وثيقة تؤرخ في جوفها، حكايات من جهد وعناء السنين.
راح يطوف بين غرف المرضى، يكشف على هذا، ويتابع حالة ذاك، ويدون ملاحظاته في التقارير الطبية المعلقة على الأسرة.
كانت إبتسامته الرقيقة، ومداعبته اللطيفة، كالترياق الذي يمنحهم القدرة على مقاومة المرض، ويبث فيهم روح الأمل في الشفاء.
إصطبغ قرص الشمس باللون الأحمر، وراح يتوارى خلف البنايات.
بدا الإجهاد يداعب ملامحه .. أزاح سماعته الطبية عن رقبته، وراح مرة أخرى، يسير في الممر، عائداً إلى مكتبه
وإذ فجأة !! .. تدفع فاتن باب المستشفى الزجاجي بقوة، وهى تصرخ وتستغيث
– حد يلحقنا بسرعة !! .. بابا بيموت !!
يستدير دكتور نبيل للخلف، تصطدم عيناه، بفتاة عشرينية، جميلة الملامح، يتهدل شعرها الكستنائي الطويل والمموج على وجهها
يتقدم نحوها بخطوات واسعة
– هو فين ؟؟
= في التاكسي !!
يهرول إثنين من طاقم التمريض، يحملان المريض على سرير نقال، ويتجهان به لقسم الطوارئ !!
دخل دكتور نبيل غرفة الطوارئ، فإهتز جسده، فور أن وقعت عيناه على أستاذ صالح، وهو ملقى على السرير بلا حراك، مفتوح العينين وغائب عن الوعي.
إقترب منه واجماً، وراح يتفحص وجهه بدقة، كمن يبعثر بين دروب ذاكرته عن وجهٍ محفورٍ فيها.
أستاذ صالح .. رجل مسن، يحبو بخطواته الأولى في العقد السابع من عمره، جسده طويل، بطول السنين التي حملها على كاهله .. والتجاعيد التى رسمها الزمن على وجهه، تحكي قصصاً من الصبر، وتجارب لا تُنسى، إلا أنها عجزت أن تطمس ملامح وجهه البشوش، ببشرته القمحية، وعينيه العسليتين العميقتين، وبقايا الشعيرات الفضية، التي تتناثر على ضفتي رأسه الأصلع، كأنها تاج من الهيبة والوقار.
كانت رؤية دكتور نبيل للأستاذ صالح، أشبه بصدمة كهربائية زلزلت جسده المنهك، فدبت فيه الحياة من جديد .. بل كانت كبركان ثائر، إنفجر فجأة، ليتفتق عقله بكل ما في باطنه من ذكريات.
ينظر دكتور نبيل إلى فاتن
– خير ! بيشتكي من إيه ؟
تجفف فاتن وجهها من دموعها المنهمرة، وتقول بشفتين مرتجفتين
= هو عنده قصور في الصمام التاجي، وبتجيله أزمات قلبية على فترات متقطعة، لكن المرة دي الأزمة كانت شديدة قوي
وضع السماعة الطبية على أذنيه، وراح يفحص أستاذ صالح بعناية ودقة.
أشار للمرضة وهو ينزع السماعة عن أذنيه، أن تقوم بوضعه على جهاز التنفس.
نظر إلى فاتن وهو يقول ..
– إتفضلي معايا !!
يتجه إلى مكتبه، وتتبعه فاتن
يجلس على مقعد من الجلد، خلف مكتب خشبي كبير، وتجلس فاتن أمام المكتب
يسترق إليها النظرات، وهو يعود بظهره للخلف، ويلامس ظهره ظهر المقعد
يعبث بقلم موضوع على المكتب وهو يقول
– إنتي بنته ؟
= آه !
– تحبي تشربي إيه ؟!!
تكسو حمرة الخجل وجهها البض .. تنظر لأسفل .. تتلعثم وهى تقول ..
= متشكرة خالص .. بس عايزة حضرتك تطمني على بابا !!
– من إمتى وهو تعبان ؟
= هو بقاله تلت سنين .. بس الفترة الأخيرة بدأت الأزمة تزيد معاه !!
– طيب فكرتوا تعملوله عملية ؟؟
= في الحقيقة، أول مرة كشفنا وعرفنا إن الصمام فيه مشكلة، الدكتور قال لازم يعمل قلب مفتوح ويغير الصمام ..
صمتت فاتن برهة، ثم أردفت ..
بعدها كشفنا عند كذا دكتور، وكلهم أكدوا نفس الكلام ..
تتنهد بحرقة ..
لما سألنا، عرفنا إن تكلفة العملية غالية جداً، ممكن توصل لخمسين ألف أو أكتر ..
كست عينيها سحابة من الدموع، لكنها أبت أن تنساب، وإستطردت ..
سألنا في المستشفيات الحكومية، فقالولنا قدامكم سنة لما يجي دوره.
تصمت فاتن، ويعتدل دكتور نبيل في جلسته
يضع القلم الذي كان بيده على المكتب، يضم راحتيه، ويمط شفتيه، يميل للأمام مقترباً من فاتن، وهو يقول بهدوء وثقة ..
– أنا عايزك تطمني !! بابا ها يعمل العملية الإسبوع اللي جاي إنشاء الله !!
إقشعر جسد فاتن، جحظت مقلتيها، وفغر فاهها، وإرتسمت على شفتيها إبتسامة عريضة، نظرت اليه مشدوهة وهى تقول
= بجد يا دكتور ؟!! طب إزاي ؟!!
ينهض دكتور نبيل عن مقعده، وعلى شفتيه عن إبتسامة ودودة، يقترب من فاتن وهو يقول بجدية وحزم
– إزاي دي بتاعتي أنا !!
تنهض فاتن، تغادر المكتب وهى تنظر إليه، نظرة من أصابه دوار
يعود إلى مقعده، يميل بظهره إلى ظهر المقعد، يلقي بعنقه على راحتيه المتعانقتين خلفه، يطبق جفنيه، ويسبح على سحابة من الذكريات ..
” كان أستاذ صالح مدرساً، في المدرسة الثانوية التي يدرس بها نبيل، وكان متميزاً بإسلوبه التشويقي والمبسط في شرح المنهج ..
كان الطلبة موفوري الحظ فقط، هم من يجدوا مكانا شاغراً في مجموعات دروسه الخاصة، وكان نبيل واحداً منهم
في بادئ الأمر سارت الأمور على ما يرام، وكان نبيل سعيداً ومنبهراً، ويلتهم دروسه بنهم وشغف، إلا أن دوام الحال من المحال ..
لقد توفى والد نبيل في السنة الدراسية الثانية، وإنقطع عن مواصلة دروسه مع الأستاذ صالح، قابله في المدرسة، وسأله عن سبب إنقطاعه عن الدرس ؟؟
فأخبره نبيل بوفاة والده، وأنه لن يتمكن من مواصلة الدرس معه، بسبب ما أحدثته وفاة والده، من إرتباك في دخل أسرته
طيب أستاذ صالح خاطر نبيل، وعاتبه على ما فعل دون أن يخبره بما حدث، وطلب منه أن يعود إلى مواصلة الدرس، وأن لا يشغل باله بأمر المصروفات، خاصة وإنه طالب متميز، وقد تنبأ له بأنه سيكمل دراسته في كلية الطب
كان أستاذ صالح يكتب إسم نبيل أمام زملائه، في أول الكشف بأسماء الطلبة، الذين قاموا بدفع المصروفات
إشتغل نبيل في عطلة السنة الدراسية، ومع بداية العام الجديد قدم للأستاذ صالح، مصروفات الدرس، إلا أنه رفض أن يأخذها، وطلب منه أن لا يخجل، ويلجأ إليه، إذا إحتاج مصروفات للدروس الأخرى
تخرج نبيل من كلية الطب، وأصبح طبيباً متميراً
وذات يوم ذهب إلى مدرسته، يشكر أستاذ صالح على جزيل معروفه، إلا أنه كان قد خرج على المعاش، وإنقطعت صلته به
ظل وجه أستاذ صالح محفوراً في ذاكرة نبيل، وكان يشعر دائماً بأنه مدين له .. “.
إعتدل دكتور نبيل في جلسته، وهو يمسح قطرتين من الدموع الحبيسة في زاويتي عينيه ..
أمسك بهاتفه المحمول، وهاتف قسم الحسابات في المستشفى، وأوصي بحجز عملية قلب مفتوح في الاسبوع القادم، بإسم الأستاذ صالح، خالصة كافة المصروفات.
تمت
الاسم : شنودة ميخائيل جرجس بشاى
اسم الشهرة : سيناريست شنودة بشارة
البلد : مصر
رقم التليفون والوتساب : 01225670451
لينك الفيسبوك : https://www.facebook.com/scenarist.arteenalmasry
فرع المشاركة فى المسابقة : قصة قصيرة بعنوان ” سحابة من الذكريات “.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x