ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : سيول . مسابقة القصة القصيرة بقلم / ابتهال خلف الخياط .. العراق

سيول

“الموت عندنا مختلف جدا عن أي مكان , هنا نستلطفه فيبقى ” – هكذا تحدث أبو محمد وهو يدخل مسرعا للبيت. لاقاه ولده متسائلا : أبي هل جلبت البلبل ؟                                                                                رد ضاحكا – اجل  إنه في هذه العلبة . هيا اجلب القفص  .                                             فرح محمد وركض نحو أمه   : أمي  أين القفص ؟                                               ردت – إنه خلفك عزيزي .                                                                               اجتمعت العائلة حول مائدة الغداء ليرفع أبو محمد نظره باسمًا إلى زوجته : سمعت بقدوم السيول , مصيبة جديدة , أتذكر كيف أخذ السيل أبي حين كنت بعمر محمد .

الزوجة ردت بخوف  : لا سمح الله .

أبو محمد : سنغرق في الطين .

الزوجة  : أعوذ بالله ما هذا الفأل .

أبو محمد : لقد تحركت السيول يا امرأة ستصلنا اليوم ولا مكان لنهرب .

الزوجة  : أظنك تمزح ؟

أبو محمد : ولماذا أمزح ؟

الزوجة : لأنك تتحدث ببرود  !

أبو محمد : لقد شبعنا من الموت ورأيناه بجميع صوره  فلماذا نخاف .

تنهد طويلا و راح يشعل سيكارته ناظرا إلى ولده   ــ علينا أن ننقل ما نستطيع إلى السطح  .

التفت إلى زوجته فوجدها واجمة  فقال مطمئِنا : للبيت أساس متين فلا تخافي ، سأبدأ بنقل الأشياء الثمينة وعليكِ فقط مراقبة قدوم السيل .

قالت : أكره الانتظار لنتبادل العمل فالخوف سيغرقني قبل السيول.

رد ضاحكا : إن أخذكِ السيل سيجمد في الحال لتنتفخ الأرض وتخرجين صامدة قاهرة له .                                                                                         ثم أشار إليها بالقبول وجلس متربصا  لقدوم السيل . أخذ يتصبب عرقا وتقطعت أنفاسه فصرخ بصوت مخنوق : يا امرأة هل انتهيتِ؟

لم تجبه , فعاد يصرخ وهو يتلفت  ، بدا له المكان فارغا . صار ينظر مرة إلى سور الدار ومرة إلى ما حوله وتبادر لذهنه صوت هادر يقترب فركض هاربا حيث السلم  ليتناوله بسرعة ليكون عند السطح . رآها تجلس وسط ركام الأشياء تحتضن ابنها وهو محتضن القفص .

كانت الشمس قد تسلقت الأماكن , الأشجار أنهكتها الأمطار وفتحت فجوات فيها بإمكان القطط أن تلوذ بها من الغرق.  كان الرعاة يَصُّفون الغنم كطوابير ليحصوا خسائرهم إن قدم السيل أما الكلاب فقد أخذت مواقعها بصمت متناسية الفجوات التي صنعها الجوع على أجسادها .صار يضحك والخوف يسيطر على وجهه حين رأى جاره مرتبكا عبر سور السطح.

صاح : أيها الجار سيأتي يوم لنتمشى بأمان عند النهر و نتذكر كيف كانت حاجاتنا تمتطي سيوله بشجاعة , حتى القدور والأرغفة اليابسة التي لم تجد الوقت لتنقع وتذوب ونمدح زوجاتنا وقد زهدن بحاجاتهن . ما بك تدير لي ظهرك ؟

رد الجار : مازال عليَّ الكثير لأنقله . قد جاء السيل و ما زالت زوجتي تنتظره دون أن تسمع هدير قدومه ، سأنزل لأنقذها.

قال مجيبا : أسرع إذن .

استدار نحو زوجته قائلا – السيول من الكائنات التي لا تحب الأسوار و تريدها مهدّمة إنها العفاريت ذاتها .

ردت الزوجة : متى تصمت ؟ اترك الرجل لشأنه فربما لن يتمكن من النجاة و زوجته فقد ضرب السيل السور. آآه يكاد رأسي ينفجر من صوته لعله يجلب الصخور معه ليطحن الغرقى.

كان الجار يسحب زوجته عبر السلالم وقد غطاها السيل  .

صمت أبو محمد وصار يحدث نفسه – لن أذهب إلى أبعد مما قاله والدي حين رسم في ذهنه انتصاره ونجاته ولكن هيهات لقد ابتلعه بنهم وكأنه حشرة لا أكثر. كان أبي يكره الأسوار المتينة ويقول أنها عار فالجيران هم أسوارنا دوما ، لم يكن والدي حكيما كفاية . إيه ٍ يا أبي هاهو السيل يمر باحثا عن بشر و حشرات وكلاب و خراف وأثاث إنه جائع جدا والحمد لله أنه لم يرني . لكن ربما سيتسلق السور لينال مني كما نال منك ، كم كنتَ طيبا و كم أتصور فرحته حين تلقفك مبتلعا إياك بفرح .  متى ينتهي السيل يا رب فقد مللت الخوف ، كم أكره جمود امرأتي وسط الأغراض المتكدسة وصمت طفلي وقفص عصفوره . لكن ماذا إن تسلق السور إلى السطح ؟ يا ويلي ماذا سأفعل حينها ؟ يجب أن أفكر بهكذا مصيبة  .

صاح  – تعالي يا امرأة أظن السيل سيرتفع ليأخذنا.

انتفضت المرأة بخوف وهي تحتضن ولدها وهو محتضن القفص . تحركت مسرعة نحو زوجها الذي صار يضع الحاجات فوق بعضها البعض ليصعدا عليها حيث سور السطح .

عاد محدثا نفسه وهو يسند زوجته وطفله عند السور ــ لم يهتم جاري بما قلت ربما لأنه لم يحظَ بالأولاد وصار هو وزوجته ركاما بين أغراض عتيقة مثلهما.   يا له من كلام غبي . الليل ظهر في الأفق وسط رعبي من هدير السيل المتصاعد . يا خوفي من أن تلحق به سيول أخرى لنخسر حرب السطوح ويبتلعني كما والدي. تبدو السماء ساخطة فقد ظهرت الغيوم الآن وصار يُرهقني عمقها الأسود وقد بدأت تغطي كل منافذ السماء .. يا للمشهد أنا وجاري و سطحي بزوجتي وطفلي .. يا الله هل سيكون علينا الموت هكذا بأن نبتلع الطين ؟                               يا لدهشة كبريائي كم تحملت من الحياة حتى لا تكسرني ولكن أيتها السيول لا أظنك ستدعيني أحيا فقد تكفل الظلم بشرائك ليقتلنا جميعا دون أن يخسر في بناء السدود فينال منا بالرصاص والجوع  . أيتها السيول كُفِّي عن ابتلاء كبريائي ربما عليّ الصراخ في وجهكِ قبل أن أستسلم لجوعكِ فهيهات لنا أن نعيش مع سراب الآمال .

حلّ الصمت وسط تعالي هدير السيول وجرفها لكل شيء ، قد بدأ يرتفع ويرتفع وغابت الأرض وصار سيل الطين هو المنظر الوحيد . كان الرجل متشبثا بزوجته وطفله وقد جلسا عند سور السطح وقد بدأ يرتفع عند جسده رويدا رويدا ، كان خوفه يعتصر جسد زوجته . وصل السيل إلى صدره ، رقبته ، فرفع بصره نحو قبة السماء الكئيبة، قاوم يأسه بأقدامه الغائصة في السيل المغموم كما السماء ، كانت الأرض صامتة بتجبر فهي تعينه بملامح مستسلمة كأولئك المحكومين بالذل إلى الأبد.

صاح فجأةلن تأخذني وسأنتقم منك لأجل أبي .

(حاولت لبضع ثوانٍ أن أفهم سرَّ صبره ! ربما هو منظر عاش على تذكره حين مات أبوه غارقا بالطين لكنْ سرعان ما أطبقت عليَّ اللامبالاة حين أحسست بثقل فظيع أكثر مما كان لأولئك المثقلون تحت سماء شاسعة رمادية، التقيت بالكثير من الناس كانوا يسعون محنيي الظهور .سألت أحدهم – إلى أين ذاهب؟ أجاب بأنه لا يعرف ! لقد استسلموا للسيل إلا أبا محمد فقد تمكن من الصمود ولم يتزحزح فغادره السيل متراجعا . كان الطين قد غطاه لكنه تنفس حين سمع صوت طفله يُصفِّر للبلبل معلنا سلامتهم جميعا.)

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى