الاسم يسري ربيع حلمي نصر
الشهرة.. يسري ربيع داود
ماجستير في الأدب العربي والنقد
كاتب وناقد أدبي
……………….
( شاروبيم)
قصة قصيرة
يسري ربيع داود
……
فتحى تاجر (أراري)، استطاع تكوين ثروة عظيمة ، بدأ من راعي غنم متنقل على باب الكريم ، يبيع ويشتري ، وأحيانًا يشارك النتاج مع فلاحي القرية التي قطنها بعد عناء اللف والدوران في أرض الله الواسعة، وشيئًا فشيئًا استطاع أن يكوِّن قطيعًا خارج حدود بيته يضاهي ماهو موجود في حظيرة بيته المترامي، وبعد أن كان يشارك الفلاحين في أغنام بسيطة استطاع بفضل حنكته أن يشاركهم في بعض مواشيهم التي جدُّوا في تربيتها والعناية بها في مزارعهم.
عرفه الناس بشاروبيم الناصح ، ولا أحد يعرف له أصلًا من فصل ٍ، لكن المعروف عنه أنه بخيل لأبعد حد ، فلم يجالسه أحد من أقاربه أو جيرانه وقت الوجبة إلا وهو يأكل المش وفحل البصل العظيم ونصف رغيف بيتيٍّ ناشف ، ولم يعهده أحد قد أكل لحمًا أو ثريدًا أو حتى قشدة من مكنة اللبن التي تعكف عليها زوجته ليل نهار حتى أصيبت بالغضروف اللعين كما وصفه شاروبيم نفسه، وصَفَهُ كذلك ليس حزنًا على زوجته ؛ بل بسبب ما قد يكلفه من علاج لها كما أخبره طبيب الوحدة الصحية ، لكنه أقسم بينه وبين نفسه ألا يفعل، وأنه لن يعالجها إلا عند عبده الحجام وأيضًا بالمجان أو نظير السماح له بمجالسته في مجلس السمر اليومي على كوب الشاي على الجمر . أحيانًا يكون متواضعًا مع شركائه في نتاجات بهائمه من البقر والجاموس، ففي أحد الأيام جاءه أحد شركائه ليبشره بنتاج بقرته البكرية التي أخذها منه قبل أقل من عام ولم يمهله الرجل ليبشره لكنه قابله بترحاب المستفيد وابتسامات الجائع المتسول ، فلما سأله عن النتاج ضحك شريكه عبدالجواد بملء فيه وقال وهو يمسك بكتفيه يرجهما : رزقنا الله عجلًا سمينًا مثلك يا حج فتحي !
تناسى الرجل الإهانة أمام جلسائه لمّا رأى المكسبَ يتراقص أمام عينه الفارغة، فدقق فيه النظر كذئب رأى فريسة سهلةً، وساومه على ثمنه وأخذه منه بثمن بخس وأمره بربطه داخل الحظيرة التي توسعت قليلا بعد انضمام هذا العجل الجاموسي، لا يطرب شاروبيم إلا بسماع أصوات حيواناته تدخل وتخرج من حظيرته، ولا يثمل إلا باشتمام رائحة سباخ بهائمه ، ذهب من عنده عبدالجواد وهو يشخلل بالقروش القليلة التي أخذها من شاروبيم الطماع، ثم انعطف الرجل بعد خروجه إلى دكان شاروبيم نفسه ليبتاع ببعضها من بقالته وجزارته التي يشرف عليه ولده الوحيد خارج سور المنزل.
أهل القرية لا يعرفون موطنه، لكن الأشهر لديهم أنه يهودي أقبل عبر سيناء إلى قريتهم بعد طول ترحال، ورجَّحَ نظرتهم تلك اسمه الذي يحمل أمارات صحة ظنهم ويعضدها بخل الرجل الشديد وذكاؤه الذي فاق الحد لدرجة أنه في فترة قصيرة استطاع أن يكون من أثرياء القرية إن لم يكن أغناها.
لا يعرف أحد متى ينام الرجل؛ ففي أي وقت يذهب إليه أحد أبناء القرية ليستلف منه القرش بقرشين أو ليشاركه على بهيمته نظير قرض بخس أو ليشرب معه كوب الشاي على الجمر نظير قرشٍ بالمشاركة مع جموع الجلساء إلا وجده متيقظًا ، يكثر من فرد أصابعه وطيها ، ويتمتم بأرقام وكلمات لا يعلم تفسيرها إلا هو فقط، لكن المعنى العام من كل تلك الحركات أنه لا يكف طيلة الجلسة عن الحسابات والابتسامات التي لا تنم إلا عن مكسب قد حصل أو رزق يطرق باب بيته الخشبي العتيق.
من أشهر ما حُكي عنه على مصطبة جامع البلد الكبير أن محمدين الغلبان قد سُرقت ماشيته التي شارك عليها فتحي شاروبيم، فضرب الرجل أخماسًا لأسداس، فكيف يخبر شريكه الحريص بالخبر ليستعطفه فيرحمه في بعض ما نزل به أو يخرج له مما أفاء الله عليه من بهائمَ من حظيرته المترامية ، فذهب ومعه عوضين جليسه الأقرب له ليكون ردءًا له ومعينًا على شاروبيم لعله يؤثرُ فيه، فلما دخلا عليه وسط جلسته أخبره بانكسارٍ عن سرقة ماشيته، فحدجه الرجل بنظرة لئيمة وأتبعها بابتسامة لا محل لها من الكلام وسأله : عن أي ماشية تتحدث يا رجلٌ يا طيب!
فتلعثم الرجل وقال بصوت متقطع : ماشيتك التي شاركتني عليها منذ عام.
فضحك ملء فيه وأشار بسبابته الطويلة التي أصابها القشف نحو دولاب موصود ، قد نُحت في حائط بيته العريض قائلًا :
بهائمي هنا، في دولابي ، أما بهائمك أنت فهي التي قد سرقت فقم لتبحث عنها أو أسجنك بتهمة التبديد والإهمال!
حكايا الرجل لم تنته، لكن ما يتذكره جلُّ أهل القرية أنهم قد وجدوا شاروبيم صريعًا في الترعة التي تشق القرية وفي يده عصاه قد أحكم القبض عليها، وعلى شاطيء الترعة يقف أهل القرية ينتظرون مأمور المركز في الطريق وليس بين جموع الناس ابنُه الوحيد الذي انشغل عن ذلك ببيع باقي الذبيحة التي كان يسلخها قبل علمه بموت أبيه!