صرخة داخل الصَرخة)
هذا المساء لايختلف عن غيره إلَا أن بعض الفصول التي غادرته وأحرقت آهاته هكذا تراها منال حيث تجلس في شرفتها المطلَة على مقهى المدينة فترى الناس فرادى وجماعات يتوافدون على المكان كلّ و غايته منهم من يمارس لعبة الشّطرنج أو لعبة الورق ومنهم من يتحلَق للفرجة فقط وهي قابعة بشرفتهاهناك تحتسي قهوتها أو تقرأ كتابا, فبعد إحالتها على التَقاعد من التعليم حيث قضت حياتها بين جدران الدَراسة من تلميذة الى مدرَسة باللّغة الفرنسيَة كامل حياتها وقد كانت منال تحرص منذ الصًغر على الإتزام وهو من المثل التي نشأت عليها حيث تترصَد عيون أباها الجنرال كلّ تحرَكاتها لتصل اليه تقاريرا يوميَة ،لم تبرأ منها الّا حين انتقلت الى الجامعة، لم تتزوّج لكن قصّة حبّ وحيدة جمعتها أيَام الجامعة بزميل لها اختاره قلبها من بين الطًلبة وهي في العشرينات من العمر أحبّته وداست في حبَها على كلَ القيود التي كبَلتها يوما ،أحبَته حتَى الثمالة لم ترى غيره من بين كلّ رجال الكون غرّد بأوصالها العشق وتوهَج بداخلها حلم تزيًنه مشكاة من نور كأنه من زمن النبوؤات فأحسَت أنها في أسطورة كون خيالي كمن يطلب السّفر الى عالم اللَذَة المشتهاة أين تكمن متعة
الحياة وصقلت المرايا داخل ذاتها كمن يكتب تاريخ ميلاده داخل عالم متقارب .. متباعد، فالعاشقات مجنونات بالمطلق وهي إحداهن هكذا رأت نفسها فسليم أغدق عليها سكوبا من الحبّ والإنصهار وصنع لها لهيبا بلغة الكلام ,فتمرّدت على مارد أنوثتها وحلَقت بها أجنحة الغوايات ..ركبت زورقا من الأحلام كفراشة تغزو الحقول وترتشف من رحيق الزّهور ولا تبالي بأشواكها ,انغمست في طقوس الحبّ الذي صنع لها حرائقا من الجنون علَمها كيف تفكُّ أزرار التّيه وترجع الى مواسم الطفولة وتغنَت بأف نشيد حتّى أنّها نسيت نفسها ومن تكون.
لكن الحبيب حين دقَت ساعة الحب دروب الفضيلة انقشع الضّباب ولم يترك بين ضلوعها غير الأنين نامت على ضفاف ليلها الضّامىء فمشى على خصرها وجع أطرها دموعا .
جلست على نافذة القمر تأكل شفتيها رماد الذّكريات غيض من فيض .. تكلّست في عيونها صفائح من أغلال نبشت بوَابة روحها بصمت مختنق بوهم عشق عاشت معه أحلى أيّام حياتهاَ هكذا خُيِّل لها مع ذاك الذي تنكًر لها ،لكن هذه العلاقة أسفرت عن ثمرة خارج الأطُر دون علمه ليكون مولود ذكر لا تذكر من ملامحه غير شامًة على أسفل العنق حيث احتضنته وأرضعته مدَة أسبوع واحد انتُزع منها غَصبا أرسلت بعد ذلك لتكمل دراستها في جامعة أروبيّة بذات مجرًدة من منغًصات الحياة ليصلها خبر وفاة ذاك المولود بعد زمن ليس بالبعيد ,فبعد الذي واجهته من نبذ عائلتها ونفيها للدًراسة خارج حدود الوطن لدرإ تلك المأساة وزُجَ إثر ذلك بسليم في السَجن بتهمة تكوين وفاق وتوزيع منشورات شغب تضرٌ بالصَالح العام كل ذلك نتيجة تلك الخطيئة التي ارتكبها مع بنت الجنرال ولأسباب غامضة توفي في السًجن ليتوارى مع خطيئته تلك.
ترجع منال لموطنها بعد وفاة والدها وتكمل حياتها كمعلًمة باللٌغة الفرنسيَة التي تخصَصت فيها بنسق هادىء ,لكن أحيانا تأكلها المسافات في هزيع الشوق, فالشّمس تدخل البيوت من أبوابها وتخرج من شرخ النّوافذ ,كذلك المشاعر تغادر فصولا ألفتها وأخرى أحرقت آهاتها لكن الرٌوح تهفو الى أبواب أغلقت من زمان وتشعل فتيل حرائقها لكن منال أعدمت هذا الشّوق داخل قفصها, إذ لم يد خل قلبها رجل بعد حبها الفاشل ذاك حتى وفاته التي علمت بها عند عودتها لم تهتزَّ له أواصرها لقد اعتبرته ميًتا بالأساس منذ اليوم الذي خذلها فيه.
دخل فارس الى المقهى كأنّه مقبل من زمن سحيق, لحية كثيفة تكسوه وشعر أشعث غطَى مساحات جماله ولونه الأبيض النَاصع ولباسه الغير مهندم جلب له الإنتباه عند أوّل خطواته خاصَة ووجهه غير مالوف لدى روَاد ذاك المقهى فاغلب الوجوه هناك متعارف عليها من كثرة تردَدها.
اقتعد فارس كرسيًا خشبيًا ,فهو متعب لا يقوى على شىء يصافحه ظلٌ غيمة تقف عند كتفيه تظلًله من وهج العيون التي ترقبه، من حين لآخر يرمق الفضوليًين بعيون حادَة وهو يفتل بين أصابع سيجارة كمن ينتظر شرارة.
لاحقته أعين المتطفًلين وهو الغريب عن المكان وحين انكسرت دروب الغروب وقف مجهدا كمن تثخنه الجراح ،لقد اكتشف فارس في مستهل مراهقته أن العائلة التي كانت تبنَته ليست التي أنجبته ممَا زاد في توتٌره النفسيً ومزاجه المتعكًر دوما وطبعه الحادَ، لكنَها الآن لا تعني له الكثير غير اللَقب الذي يحمله في هويَته.
خرج فارس الى الشَارع الممتدً واقتعد الرَصيف وهو يدخًن سيجارة يتصاعد دخانها في السَماء, وحين أنهكه رحيقها قام.. تعثر.. ثم سقط أرضا.
امرأة هادئة لم تفقد شيئا من حيويَتها وجمالهاحلًقت بخيالها بعيدا في ذكريات مضت .. عيد الميلاد على الأبواب، فكم أعياد ميلاد مضت كثيرة وهي وحيدة كما اليوم تراقب المارَة في الشَارارع وهي كساعة رملية لا تتحرَك من مكانها .
أطلَت من الشّرفة المطلّة على الشّارع المعاكس ,وقد تحرَك بداخلها فضول لم تعرف له سببا .
الشّارع يكسوه البياض وهو ملقى على الأرض دون حراك في الأوَل ظنَت منال أنه ميَت أو يكاد اتَصلت بشرطة النًحدة علَها تسعفه ثم نزلت الى الشَارع ظنَا منها أنها تستطيع فعل شيء له في انتظار الإستجابة لنداء الإستغاثة الذي أطلقته للشُرطة، أمسكت بيده لتوقظه من غيبوبته هكذا خطر ببالها
_ لا تخف شرطة النَجدة على الطَريق لإسعافك ، انتفظ من مكانه كالجريح وأمسكها بعنف ونصل السًكين برقبتها ثم قادها الى شقَتها التي دلَته عليها غصبا غلَق الأبواب لما صارا في الدَاخل ولم
تشفع لها توسٌلاتها وبكائها كان أمامها كرصيف متجمَد ,إذ لم يكن لديها خيارغير الإذعان والتزام الهدوء والنَصل يوخز رقبتها ,حيث لم يسبق لها أن عاشت حالة رعب كتلك التي تواجهها لسبب لم تعرفه حيث وجدت نفسها وجه لوجه مع شابً مفتول العضلات عيناه كشهب من نار .. امتدَت يداه بعنف.. مزَق ملابسها ورمى على الأرض كل ما كان يرتديه ،فذهلت عيناها أمام تلك الشَامة أسفل العنق ودارت بها السَاعة
الى ما قبل أربعين سنة ،
تلتها زوابع عدَة لم تعد تذكر منها شيئا سوى تلك الشَامة أسفل العنق وصاحت في وجهه بصوت أفزعه وقد أخذ منه ما يتعاطاه كل التَركيز،
_ لا.. لا .. لا تفعلها …
فالسرَ الأكبر ما ستنطق
مخابر التحاليل الجينية وكل ما قبرته مجازرنا الإنسانيَة.
فبرغم الأبواب الموصدة بحكم النَسيان..
تُفتحُ اليوم بلا إنذار فوهتها على الجحيم..
منجية حاجي mongia hajji
البريد الإلكتروني hajji [email protected]
البلد تونس
باب القصة القصيرة
خاص بالمسابقة