الرسالة الطويلة التي أرسلتها لك هذا الصباح عبر بريدي الإلكتروني “جيميل”..أدّت مفعولها وأخرجتك عن صمتك الطويل.
فكرة التشبث بكرامتي والتظاهر أنني قوية؛ لم تجد نفعا..
لا زالت مائدة الإفطار كما هي..حتى انني لم اعد أهتّم لنحافتي ولم أعد أرددّ أمام مرآة الحمام أغنيتي المفضلة..على نغمات فيروز الصباحية..مناجية وجنتيّ المتوردتين:
(عودك رناّن دخلك عودك إلي..عيدا كمان دخلك عيدا إلي…سمعني العود..ع العالي…)
قطعة الحلوى المكشوفة وعصير الليمون المنسّم بورق النعناع الطري استقطب ذبابتين شوّشتا أفكاري..كانتا تتناوبان على امتصاص حافة الكوب وطبقة الشكولا السميكة على ظهر الحلوى..
_ اشتقتك..
ردّك على رسالتي الطويلة؛ لم يكن مقتضبا..قلت كل شئ في كلمة واحدة..حتى أنني رأيت عينيك الحالمتين في حرف التاء والكاف..رأيتك مذعنا خاضعا أمام هدوئي وراء شاشة الهاتف..رأيتك تستلقي على ظهرك وقد احتضنت كتابا من كتب فلاديمير التي جلبتها معي خلال رحلتي إلى العراق من شارع المتنبي ببغداد. لم تكن قاسيا على أغلفة الكتب كما عهدتك..حين كنت تمزّق وجه كاتبي المفضل..وتفتح صنابير الماء على مدادها كي تستقر بجوف الأرض.
كنت تعلم أن رسائلي لك..أكتبها بشيفرة عطرك المفضل..لذا فقط سارعت إلى طاولة عطوري؛ ووضعت قطرتين على نبض معصميّ الأيمن والأيسر..قطرتا العطر اللتان عبرتا بخاخ القارورة الفاخرة..لتستقرا في معصمي..كانتا كل الحكاية..
أذكر أنني كنت أقتني للقائنا قبل الزواج أفضل العطور ..ألتقيك هناك..لأصمت أنا..ويحكي العطر..
جبتُ الغرفة انتظارا..أطرق رأس الأرضية بكعبي العالي متحدّية دقات الساعة الحائطية.. الساعة تشير إلى الثامنة إلا ربع وأنا ودقاتها نشيّد ملحمة انتظار لم يملّ كورالها من ترديد لازمة الكعب والساعة..
_ سنتناول العشاء معا هذا المساء..وسنثرثر طويلا..
(أخبرتني في رسالة على الواتساب بعد عشرة دقائق).
كنت أعلم أنك تهوى طبخي..حتى أنك تفضّله على طبخ والدتك. تناغمت الأشياء وفستاني الشفاف تحت رعشات لهيب الشموع الحمراء؛ وطبق شرائح الديك الرومي المشوي الذي جهزته بتوابل حب رومانسي مع بعض السلطات والفواكه التي تحبها.
نظراتي شردت بعض الشئ باتجاه خزانة كتبي التي صممتها على شكل “اقرأ” كانت مميزة..لكن شكلها بدا أغرب و قد تدلت من أحرفها مشاجب قمصانك البيضاء…كنت تعتقل لمساتي المعطرة داخلها..وقد فككتٓ كل الشيفرات..كفّت يدي اليمنى بعدها عن الكتابة..مذ انتصر فيها العطر على الحبر..
صرير عجلات سيارتك ال(رونج روفر Range Rover) انتشلني من الخزانة.. وقع قدميك يقترب من باب الغرفة..وقع قدمي يخفّ شيئا فشيئا…يدك تقبض على مزلاج الباب…يدي تتحسس معصمي..أفرد هامتي..أتوجه يمينا نحو مكتبي..تفتح الباب..أفتح الكتاب…أرفع قلم الحبر..وأشرع في الكتابة.
الشاعرة والقاصّة رشيدة محداد