عودة
(على سبيل حكي لم يكتمل).
قرر أن ينهي كل التزاماته، التي تتشعب وتتناسل كل يوم … ليذهب إلى الحمام.أي حمام؟. حمامه الشعبي المفضل، دون الالتفات إلى الحمام التركي القريب منه والمنافس له… دخل بهو الحمام، طاف بعينيه، هناك من يرتدي ثيابه ليخرج بعد أن استحم، وهناك من يزيلها مسرعًا نحو داخله الساخن، لم يعثر على أحد من جيله ليستمتع معه بحكي مهني أو إنساني، كالحديث عن دراسة الأبناء أو عنتريات ساسة هذا العالم، على إيقاعات سقوط حبيبات ماء باردة، من سقف قاعته الحامية وبخارها المتصاعد . التفت يسارا ثم يمينًا، تذكر باشلار وفلسفة مكانه. استحضر ما قاله في درسه الأخير!. أكد على ضرورة ربط الجسور بين استخراج المكان من سردياته وحاجيات المتعلم لهذا المكان لكي يؤنسنه حتى لا يعتدي عليه، وأن يكبر ويعي قيمة بيت جده الذي” انقض” عليه، كلود روبير، الآتي من هناك، من خلف البحر، ليشتريه ويرممه، ف” تموت” فيه رائحة جده وجماعته، لتحل ذاكرة فرد آخر، يبحث دومًا عما يقيه من شر برودة بلده الدائمة !. آه! ما لي ومال هذا السفر الطفولي في هذا الحمام / المكان ؟. انزوى، في إحدى زواياه. ارتخت عظامه الباردة ببرد مدينته القارس. أخيرا استقطع زمنًا من أزمنته التي لم يعد يمتلكها لوحده! . أخيرا ” سيسخن” عظامه!. تذكر كيف كان حريصا على طلب قطعته النقدية الصفراء، من أمه ليذهب، بعد حفظه كافة دروسه خلال نهاية الأسبوع، وليستعد لبداية أسبوع آخر!. كانت أمه تطلب منه انتظار عودة إخوته من اللعب للذهاب جماعة !. لا أحد منهم، راغب في الذهاب إلى الحمام، يتسلقون أشجار التوت : نهارا، بحثا عن توتها، وليلا لاصطياد فراخها!. كيف يمكن جمعهم، وهم كطيور جائعة لا تشبع من أكل التوت وعنب الدوالي المجاورة لها!. يبدو، طلبها من الأب أفضل، كما قال في نفسه!. راوغ بكل ما لديه من حيل !. أمسك قطعته الصفراء، وطار لوحده لحمامه الشعبي المفضل في تلك الأزقة الضيقة ذات الرائحة الترابية!. لم يبق من إزالة ملابسه إلا القليل منها!. سي محمد : “فين الورقة ديال الحمام؟.آه! آه!. سمح لي سيدي راني نسيت ! “.التفت الواقف والجالس في بهو الحمام ! ظنوا، وكعادة من يظن، أنهم سيستمتعون بمشهد شبيه، بمن ليس له تذكرة في حافلة عمومية، وقد أمسكه المراقب!. كيف يشرح لهم ولصاحب الحمام، أن الطفل النائم في داخله قد بعث؟ وكيف يشرح له ولمن دقق بصره نحوه، أنه كان بصدد فهم سفر الذاكرة نحو زمن غابر، مستحضرًا متعة هذا السفر السردي الدال؟. أنقذته تحية صديق مسرحي له وجده أمامه، على وشك الخروج: أهلا دكتور !!!. يبدو أن رائحة الحمام تسافر بنا دومًا إلى أزمنة طفولة طهر مكاني!. أعطى لأحد مستخدمي الحمام ورقة نقدية من فئة عشرين درهمًا. عاد ليتذكر ،أنه كان يدفع ثمن الحمام، بعد ارتداء الملابس ووضع ” الطاكية” الخضراء التي اشترتها له أمه من مزار أحد أولياء الله الصالحين تيمنًا ب” بركاته”!.
د.الحبيب ناصري
المغرب