ط
الشعر والأدب

قصة قصيرة : النهايات ..بقلم القاص / أياد الشمري .. العراق

 

بغتة داهمه أحساس غريب ..خليط من خوف وألم متكدس في صدره ، يخرج صوتا أشبه بالأنين تحول إلى بكاء مرير .. كان يترك البيت ويمشي في الشوارع المظلمة الخالية .. غير عابئ بالسيارات التي تمرق بالقرب منه وتكاد تدهسه ، كان يحس ، يعي أن رحيله قريب لم يكن له الخيار سوى أن يرحل ويترك محلته التي أساء إلى أبنائها.. في قلبه ألم ممتد كعواء حيوان جريح يثقب بنظراته عمق السماء يمرغ ذاكرته بأحلامه المنتعشة ، ها هو يراها تتلاشى يوماً بعد يوم ، وقسوة الأيام تعصر قلبه فتخرج من جوفه حسرة قوية تحرق بقية أحساس قد تكدس فيمسح العرق الساخن المتدفق من وجهه ، كان بداخله شعور متعطش لما حوله ..أحساس الوحدة القاتلة ، فيشعر بالخوف فجأة ً يدب في جسده ينتابه شعور بأن أيامه القليلة الباقية ستقضي عليه بسرعة … يضمه التراب .. بينما تتكدس في صدره المئات من الأحلام والأماني التي لم يستطع تحقيقها .. لم يبق له سوى أمه ، امرأة كبيرة اعتدى عليها الزمن فأحالها إلى كومة ضعيفة لا حولَ لها ولاقوه..
يخاطب نفسه مندهشاً متسائلاً كيف تستطيع هذه الكتلة العتيقة المحدودبة أن تتحدث وتحفظ الكثير من الأحاديث الشيقة ؟
ذكريات الماضي تمزق أعصابه .. شعر أنه بحاجة إلى أن يخلو الى نفسه فترة ، يراجع أعماله التي إساءة إلى ابناء محلته ، القلق يحطم صدره بلا رحمة كل مره يجد نفسه أنه أصبح كلباً حقيراً وأن مزيج من الحزن واليأس لازال يزحف في عيونه.
فبدأ يخاطب نفسه ، معقول أن هذا الجسد الذي بدأ يذبل يوماً بعد يوم يتحول إلى كلب؟
أي حقارة ارتكبتها ؟!
لم يكن معتادا ًعلى مخاطبة نفسه هكذا ..
في البدء حدث الأمر كما لو كان حلماً أو مجرد وهم قابع في ذاكرته وها هو يجد نفسه وقد عرف كيف يحل اللغز المتلبس في صدره ، كان يصفن ، البؤس قذف في كيانه مسافات لا يستطيع تجاوزها لكن ذاكرته تنشد مرة أخرى إلى أمه التي تبكي ،تفترش حصيرتها العتيقة في باحة البيت ذات الاسيجة الآيلة للسقوط بفعل قسوة الزمن عليها رافعة أيديها إلى الأعلى حيث يسكن الذي أمر مريم أن تهز جذع النخلة فيسقط عليها رطباً جنيا أن يحفظ أبنها الوحيد .. هاهو يدخل مرآب السيارات ، يتكور في زاوية بعيدة ، وفجأةً بدأ ينبح ، كان نباحه يتحول إلى أصوات متنافرة عنيفة.. أصوات أشبه بعواء ذئب تدخل الرعب في القلوب .. كان حارساً مطيعاً مما جعل صاحب المرآب لا يتخلى عنه يطعمه أحسن الطعام.. بعد أيام وضعت الحرب أوزارها ومزقت القذائف أسيجة المرآب و بعض البيوت القريبة .. عمت المكان الفوضى ، هرب الكلب إلى حاوية الازبال مرتعداً يحمي جسمه من الشظايا المتطايرة .. أصبح خائفاً متوحشاً لا يحسن التصرف ، أمعاؤه تلهث خاوية ..
بعد انتهاء الحرب قامت الجرافات برفع الإنقاذ واختفت معالم المرآب و صار الكلب مطارداً من قبل الأطفال و الأولاد يقذفونه بالحجارة ، فيبقى مختبئاَ في بيت مهدم مقابل المرآب ،خائفاً ،مرتبكاً .
عندما يأتي الليل وتتقلص أحشاء المدينة من المارة يتسلل إلى حاوية الازبال يلتقط بعض الفضلات التي لم يكن معتاداً على أكلها خصوصاً أنه كان مدللا عند صاحب المرآب يقدم له بقايا الأكل النظيف في طبق بلاستك أو فوق حصير بالٍ أما الآن فقد ذبل جسمه وبدأ يفقد الكثير من قوته من فرط الجوع والخوف معاً حتى أنه نهش بقايا قطة نافقة ..
عندما يأتي الليل تجيء الكلاب السائبة تأكل الفضلات الملقاة إلى جانب الحاوية ، يظل مختبئاً تحاشياً أن يصطدم معهم فينالوا منه خصوصاً وأنه كان العدو اللدود لهم ، كان يقف في وجوههم يهزمهم لا يدعهم يأكلون الفضلات التي ألقيت إلى جانب الحاوية مما جعل القطط تأكل على راحتها لا أحد ينافسها مع أنه لا يأكل من فضلات الحاوية ، لأن أكله أكثر نظافة مما جعل جسمه ممتلئاً وبصحة جيدة وأصبح قوياً ونظيفاً ، وشعره أكثر بياضاً .
أما الآن فهو مختبئ في بناية خربة مقابل حاوية النفايات ينظر من بعيد إلى الكلاب خائر القوى ضعيفا يبدو عليه الهزال واضحاً.
ـ لابد أن أجد نهاية لهذه الحياة !
قالها بحرقة وأعصاب راجفة ، سوف انتحر لأنهي هذه الحياة الراكدة المملة . علي أن أضع حداً لهذا العذاب المقيت ، لهذا الحزن الذي يقمطني بعباءته السوداء ، أن أكون أنا صاحب الخيار في طريقة موتي.
مثلاً كأن يكون تحت عجلات سيارة نظيفة بيضاء أو بإطلاقة بعيدة طائشة !
كان ينسحب قبل بزوغ الشمس إلى مكانه المنزوي الرطب في البيت الخرب يتكور حتى المساء بعيداً عن أنظار الأولاد الذين كان يخيفهم ويقفز على وجوههم عندما يتقربون من المرآب ..
وفي يوم غلبه النعاس لم يستطع سحب جسمه الهزيل الى جحره . كان خائر القوى مستسلما لأمر ما ، جاءت فرقة البلدية لرفع نفايات الحاوية ، رجعت سيارتهم لتلتصق بها .. تأوه الكلب ثم اصدر عواءً باهتا بعد أن جثمت عجلاتها فوق جسد الكلب الذي أصبح تحت قبضتها ، حاول بكل قوته المهزومة أن يخلص نفسه ، تعالى نباحه حتى تلاشى تماماً . نظر عمال البلدية إلى الجثة المتكورة تحت العجلات فيما تجمع الأولاد صامتين ، تقدموا يتحسسون بنظراتهم الجسد الذي مات بطريقة لم تناسب مكانته وشراسته..

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x