ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة :كمان تعزِف حنينها. مسابقة القصة القصيرة بقلم / حسن برما . المغرب

قصة قصيرة:
 
كمَان تعْزِفُ حَنِينَها
 
** حسن برما / المغرب
 
يوميا، في نفس المكان والميعاد، يصعد إلي عزلته المنشودة، يلتقي حبيبته الوفية، القوس في اليمنى، وهي في اليسرى تبوح بما أصابها من تبعات العطش المزمن .. طقس ليلي يحترم موعده منذ عقود، الغياب عنه ألم للقلب والحرمان منه وجع في الرأس.
 
وجد بين يديه كمانا مرصودة للتعبير عن أحزان دفينة، فكر في معاكسة هويتها الجريحة، الحزن ليس قدرا قاهرا، والحاجة للفرح مطلب النفوس المتعبة، جرّب النفخ في ثقب الناي وبعث طاقة الحياة، لأمر ما، ظل الإحساس بالحب مقرونا بالمواجع والآلام، وظلت هوية الناي المنذورة للبكاء مرتبطة بخواء الروح وتداعيات الحنين.
 
والأوتار العاشقة تستعيد بدايات الهوى، دقائق السقوط في ورطة الارتباط الغامض، مؤشرات الجنون المشاكس، والكمان الحرون ترفض الاستسلام لنزوة الاشتهاء البدائية.
 
الصدفة جعلته يصعد سطحا مهجورا اعتبروه ملجأ لما لم تعد الحاجة إليه، في لحظة سهو دون معنى، ظهرت فوق العلب الصدئة والبلاستيك الجارح، كمان متسخة دون أوتار تراقب قمر الخريف الكئيب في حياد صقيعي ممل.
 
لم تكن الآلات التي تثير الزحمة تحضى باهتمامه، الازدحام لا يسمح بالتأمل الحكيم، وهي الوحيدة ممددة في صمت الإهمال وكآبة التجاهل، حملها من عنقها، تأمل خشبها المتسخ، مسح بيسراه غبار النكران والخذلان، استغرب قسوة الإصرار على قتل الروح في حياة غير عادلة، وغرق في حالة تعاطف غريبة مع كمان بكماء لم تدفن بعد.
 
لأول مرة، لمس كمانا معطوبة، حتى وهي تفتقد لأوتار البكاء المدوزن، شعر بإحساس غريب انتاب الجسد، سحر جعل الخشب يمنحه يقين الإمساك بآلة ظلت وفية لمشاعر الإنسان المتباينة، ووثَّقتْ لخروجه من وحشة الكهوف وعتماتها المرعبة.
 
عجز عن تخيّل مزاج من تخلى عن وتره الوفي، قطّعَهُ في محطة الوداع، عند مخرج المدينة المشهور بالمزابل والبقايا المكروهة، رمى بما تبقى من هيكل الأنين المكتوم، ومضى دون أن يلتفت للوراء ويكتب وصيته الأخيرة.
 
غلفها بقطعة ثوب زرقاء، نزل الأدراج المتآكلة بسرعة، قصد دكان ولد أمي السالكة الكوامنجي، أخرجها، رمى بها وسط جوقة الولع الصوفي، وقال:” هذه البركة عثرت عليها مرمية في السطح، واش باقي فيها ما يدار؟”، تناقلتها الأيادي الخبيرة ، بحِرَفِية العشاق، نظفوها وصارت لامعة، وبحماسة مثيرة أكدوا صلاحيتها في العزف شريطة إعادة الروح إليها بشراء الأوتار والقوس من محل النصراني بائع آلات الموسيقى، ولم ينسوا توجيه اللعنات للمجرم الجاهل الذي رمى بها في حيز المهملات.
 
تطوع أحدهم وأهداه أوتارا معلبة في ورق شفاف، وآخر ربطها بالرأس والوسط، وثالث أخرج قوسا من علبة سوداء وجرب تسوية الأوتار والعزف الحذر، تابع حركات الأيدي وانشغالها بإصلاح ما ينقص كمانه المعطوبة، انتابه فرح خفي، وخاطب نفسه سرا، قال:” أخيرا صار لدي شيء يستحق الاهتمام!”
 
في حلقات الشباب، مع غريزة العثور على وسيلة لجذب اهتمام الإناث، مرارا صادف أن وجد بين يديه نايا أو عودا أو بنديرا أو هارمونيكا، لم يشعلوا فضوله، لم يداهمه الإحساس العجيب ولم تصدق مقولة الحب من أول نظرة، مؤكد أنهم جاءوا في وقت غير مناسب، ومن سبقه في تجربة الولع والعشق الملعون أكد له عبثية طرح سؤال حبه لآلة الكمان، وبالغ في البيان، قال:
 
“قد تمر بمحاذاة الحب ولا تنتبه لمن نصبوا فخاخ التيه والغرام، أحيانا تقتنع بانجذابك لشخص ما، وحين يغيب عن عينيك لمدة قصيرة تدرك خطأ القراءة وزيغ التأويل، الإثارة منعدمة والحنين في قبر النسيان، وحين تعيش زلزال الفقدان وفرحة العناق، آنذاك ، تكون قد شرعت في الإيمان بيقين الارتباط وحتمية الوفاء لصدفة حُبٍّ هي خيرٌ من ألف ميعاد.”
 
انتشر خبر عثور ولد الفقيه على الكمان المهملة بين معطوبي المصائر المنحوسة، أسرع بها للدار، تأمل شكلها اللامع، كما لو أنه أمسك بسلاح غريب، شعر بفرح طفولي ممزوج برهبة وخشوع وحيرة.
 
تخوف من ردة فعل أبيه الملتحي، الجميع يعلم كُرْه الفقيه للموسيقى، في كل المناسبات ، ظل يحذر ناس الدرب من آلات الشيطان التي تقود الأمة إلى جهنم الحارقة، وهو المحكوم بصدفة الحب المفاجئ، رفض توقع الأسوأ وخبأها تحت السرير الخشبي في انتظار إقناع الوالد المتعصب.
 
كان يعلم علم اليقين أن الوالد يرفض مناقشة شؤون الموسيقى، الغناء حرام، العزف على آلاتها معصية، الجلوس مع ناسها مجلبة للذنوب، وإدخالها للبيت دعوة صريحة لاحتضان الشيطان.
 
فكر في معارضة التعليمات، استشار أمه المغلوبة على أمرها، نصحته بترك الكمان في حانوت ولد أمي السالكة وتخصيص ساعات القيلولة لتعلم العزف عليها بعيدا عن رقابة الفقيه المنشغل بتلبية طلبات نساء فاشلات يحلمن بامتلاك المال الوفير واصطياد المهووسين برعشات الجنس بالمقابل.
 
قبِل ولد أمي السالكة بالفكرة، فرض عليه احترام موعد التعلم، ما بين الظهيرة والغروب، وقت خواء الحانوت من أعضاء فرقة أحواش، ولطقس العناق خدر عجيب لا يعترف بمساحات الزمن.
 
وكذلك كان، انطلقت سيرة الحب والارتباط القوي في السر ، وتواطأ الجميع على إخفاء عشق الولد لكمان يبدو أنها وضعت أمام عينيه بشكل متعمد لتقترن بروحه وتصاحبه إلى الأبد.
 
نادر هو اللحن الذي يسكن الوجدان للأبد، لا ينال منه غبار السنين، ولا عتمات القبر المظلم، للحظات .. يشرد البال في تخوم الذاكرة المسكونة بالآلام والجراح والأفراح، تطوف الروح فوق ضريح محبوب الأبد والأزل، تستعيد براءة النغمة المنسجمة مع إيقاعات الأرض وسخاء تربتها الطاهرة، وكلما كان اللحن مسكونا بهوية الجرح الكبير، اهتز الخاطر واحتلت دمعة الحنين عين الحاضر الشاردة في زرقة البحر.
 
مضى الخريف وهو بعيد عن مقبرة البحر المنسية، اعتقد في قدرته الغبية على العيش بعيدا عنها، عذّبه صمت الخواء وآلام البعد عن قوس أوتارها الوفية، شئ ما كان ينقص وجوده العبثي، محروما من يسراه المعطلة، عاشت أصابع يمناه شللا والعطش سمة الحنين الشقي.
 
أخبروه عن بدايات الحب، علموه كيفية التحكم في القوس، قالوا له، هي صعوبات وآلام ويأس وخوف من ضياع الألحان، وطاعة الكمان مضمونة حين يكبر الحب وتهديك الأوتار سحرا يخدر الحواس دون نبيذ.
 
في كيمياء الحب، لا يُسأل العاشق عن سبب التعلق بالمحبوب، للحب مشيئة القرار، كهرباء يزلزل الحواس ويشعل نبض الولع والاشتهاء، لكن ولد الفقيه لم يعد قادرا على فراق المحبوبة، ثار على تاريخه، تواطأ مع أمه الحنون، وحمل كمانه البهية الفاتنة ووضعها في ركن يبرز هيبتها بالبيت الحزين.
 
لم يعرف أن الألم الذي ينطلق من الأصابع إلى سائر شرايين الجسد والزعيق المثير للامتعاض كانا مقدمة خادعة وتفاصيل بدايات ظلت موشومة لحُب ازداد حضورا وقوة حين فرض الأمر الواقع على الفقيه المتسلط وصارت الكمان تُرَى ممددة بغنج ودلال في كل زوايا البيت المسكون بشياطين الخواء والصمت الثقيل.
 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى