ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة (ليلى) مسابقة القصة القصيرة بقلم / هدى سعيد أيوب .مصر

هدى سعيد ايوب ٠١٠٢٢٢٠٥٩٢٨ مصر


بخطوات ثقيلة لا تتحمل معها الألم دخلت ليلى الغرفة، ألقت بجسدها العليل على فراشٍ يقبع إلى جوار آخر، شعرت أنها تحمل عبئًا ثقيلًا تخشى سقوطه، تنتابها نوبات فزعٍ ترى فيها نفسها بعالم ليس كعالمنا تمامًا، نوبات ألمٍ يصرخ فيها الموت مناديًا إياها، نوبات ذهول تكاد تكمِل معها ما تبقى لها من عُمر، لولا أن انتزعَها من كل تلك النوبات خيط دماء يجري فوق حبات عرق تسري فوق ساقيها، وقد وجد مصارفه بين أصابع قدميها اللتين تركتا رسمًا لهما على أرض الغرفة إثر كل خطوة، لم تتفاجأ! كيف وقد حدث لها ذلك عدة مرات؟! وهي لهذا السبب في ذلك المشفى الخاص غير المشهور.

جاء الطبيب ودخل زوجها قائلًا: “كيف تضع وهي ما تزال في الشهر الثامن؟”، سأله الطبيب: “هل سبق لكم الإنجاب؟”، فأجابه: “لدينا ثلاثة: ولد و بنتان”، فباغته الطبيب: “نحتاج لتوقيع إقرار باستئصال الرحم، وسيحتاج المولود حضّانة، وتكلفتها ألف وخمسمائة جنيه يوميًّا، لا بد من تجهيز كل شيء قبل الولادة”.

جلس محمد رجب يحدث زوجته بلكنة القرية التي ينتمي إليها: “سأقول للطبيب يعيد فحص السونار مرة أخرى لنتأكد من نوع الجنين، لو كان بنتًا كما قالوا فنحن لا نريد أطفالًا؛ اتركيها دون أن ترضعيها، أما لو كان ولدًا فسأبيع ملابسي لأجله، سأسافر لأعمامي في البلد و نجمع ثمن الحضانة”، لم تُجب ليلى ببنت شفة فقد شغلها ألمها، وحادثت نفسها: “لا أريد أبناءً جددًا! أريد أن أعيش لأربِّي أطفالي”.

رحل الزوج و ترك ليلى وحدها بالمشفى، استفاقت فجأة من بين نوم وألم و كأنها تسترجع وعيها، جالت عيناها أرجاء الغرفة فاستوقفتهما فجأة فتاةٌ تبدو في الخامسة عشرة، تنزوي بأحد أركان الغرفة تبكي ويتعالى صوت شهقاتها، تجلس القرفصاء وتدس رأسها بين فخذيها، جاهدت ليلى ذاكرتها تسترجع هل كان معها أحد بالغرفة؟ لا، بعد رحيل زوجها بقيت وحدها! من هذه؟!

ارتفع رأس الفتاة وهدأ صوت بكائها، تفاجأت ليلى بالوجه الذي رأته فهي تعرفه جيدًا! وقفت الفتاة وأخذت تقترب من ليلى التي تحدِّق فيها، لم تصدِّق ليلى ما رأت؛ فالفتاة تشبهها كثيرًا، وقفت الفتاة أسفل المصباح مباشرةً في مواجهة ليلى، نظرت للفتاة بعينيها الذاهلتين اللتين رأتاها بوضوح؛ ترتدي جلبابًا أبيض قصيرًا، ورغم اتساعه يفصح عن نحول جسدها الذي بدا وردة قُطفَت قبل أن يكتمل تفتُّحها، وتضع على رأسها وشاحًا رماديًّا لا يكشف إلا خصلة من شعرٍ بنيٍّ ناعم تتدلى على جبينها. ظنت ليلى أنها ترى نفسها قبل أعوام طويلة، وهالها ذلك حين سمعت صوت الفتاة تقول: “لا تفزعي، أنا ليلى”.

و لكنها أردفت قائلة: “أنا ابنتك يا أمي”، زاد ذهولها وهي تتذكر بنتيها؛ شهد ورميساء: “من أين جاءت ليلى هذه؟!”، هتفت الفتاة: “أنا مَنْ برحمك يا أمي”، انتاب جسدها قشعريرة لم تَدْرِ لها هل هي لحظاتها الأخيرة بتلك الحياة أم أن هناك أمرًا آخر؟ لتصيح الفتاة بالسيدة الملقاة على الفراش: “من أين نبدأ؟”.

أبدأ عندما كنا صغارًا و كنت أمًّا لإخوتي أراعيهم، وأتولى عنكِ المهام التي تكرهينها، توليت عنك كل ما يتعلق بعملية الإخراج حتى لا تتأففي من الرائحة، توليت طعامهم ومشربهم وملبسهم، ساعدت بالمنزل، حلبت البقر فجرًا، أعددت وجبات عدة باليوم الواحد، حملت روث البهائم، عملت بالحقل، غسلت الملابس، غسلت أطنانًا من الأطباق، اعتنيت بالدجاج والبط والأرانب رغم خطورة ذلك على حساسية صدري، استيقظت قبل الفجر وخرجت للحظائر والأسطح حتى ذبحني السعال، ولم تعرضاني على طبيب حتى كدتُ أموت لولا انتباه جارنا الطبيب لحالتي ومساعدتي، أوشكت زائدتي تنفجر، و لم يرحمني أحد أو يعفيني من شيء من أعمالي، حتى نقلتني المدرسة للمشفى في آخر لحظة، كنت رغم كل تلك الأعمال نبيهةً أحاول أن أتعلم لأحسِّن وضعي، ورغم أن مجموعي كان يسمح بدخول الثانوية العامة رفضتم، في الوقت الذي دلَّلتم فيه أخي و طلبتم منه أن يتفرغ للدراسة، فتفرغ للجلوس بمفرده في حجرة فوق سطح المنزل يتابع الجارات ويغازلهن، وعندما رسب أصررتم أن يكمِل تعليمه.

ورغم كل هذا شببت لا أحمل لكم بقلبي إلا الحب، حملت أبي على رأسي في مرضه، وخدمتك في كبرك، ماذا كان ينقصني لتسمحوا لي بالحياة.

اعتدلت الأم في جلستها، لا يبدو عليها إلا الذهول الشديد، ليتبدد تلقائيا و يحل محله الغضب و الحزن و تقول للفتاة أنت لست ابنتي، أنت أنا.

فبادرتها الفتاة بقولها أنا و أنت واحد نعاني كثيرا و نحب من نعاني بسببهم فيكرهوننا فقط لأننا ولدنا ببقعة على الأرض ريفية لا تحب الإناث.

انهالت الدموع من عين الأم فهم يفضلون الذكور لأنهم يتحملون المسئولية أما الإناث فهي عبء و تحتاج لمن يعاونها، وذلك على حد قولهم، فلماذا دللتم الذكور و حملتونا فوق طاقتنا حتى صاروا عبء علينا.

كفكفت ليلى دموعها، و ذهبت للفتاة تحتضنها بشدة، اعتذر لك يا ابنتي سأدافع عنك بحياتي، فأنا شريكتهم أقتلك بصمتي، أدمرك بضعفي، أخذلك لأنني خذلت نفسي، سامحيني.

وجاء رد ابنتها صادم ( أمي لا أريد أن أولد لا أنا و لا هن) لماذا نأتي لعالم يكرهنا و يشقينا، أمي أن كنت تحبيني اتركيني أموت، فهو خلاصي الوحيد من ظلم عالمكم

استيقظت ليلى على صوت زوجها يحدثها بلكنته الريفية ( للأسف تأكدوا أنها بنت، نحن لا نريدها لدينا بنتان و كفى)

صرخت ليلى كيف تقتل ابنتك، هي أيضا لا تريدك و لكن أنا أريدها، و وضعت يدها على حملها، سأدافع عن ابنتي بحياتي لتولد ثم لتحيا حياة كريمة.

يرد بهدوء و حماقة هذا مجرد تجمع دموي

وماذا إن كان ذكرا، لبعت كل شيء ليبقى.

ماذا فعلنا لكم نهبكم الحياة كل يوم فلماذا تسألون الله لنا الموت

خرج الرجل عن هدوءه و قال في نطاعة (ليس معي مال ..ماذا نفعل)

دفعته ليلى رغم وهنها الشديد، و خرجت من الحجرة تنادي بأعلى صوت ابنتي ستموت و ليس معي ثمن الحضانة ساعدوني، و تهتف لمن برحمها لا تخافي سأناضل لأهبك و أخواتك حياة كريمة تستحقونها، لن أخاف من أحد، أنا معكي، فتشعر بالجنين يتحرك في أحشائها و كأنه يمد يده إليها.

حاول زوجها في البداية منعها ، و لكن اجتذبه شقيقه من ذراعه قائلا اتركها لن يساعدها أحدا و ستعود معتذرة.

جالت ليلى بأنحاء المستشفى و هي تطلب الغوث

فيهتف أحدهم ياماما هكتبلك عنوان جمعية خيرية أذهبي إليهم سيساعدوك، وهذه تربط على كتفها، و هذا يعطيها مائة جنية و هذه مائتين و ماجمعوه لا يكفي ليلة واحدة بالحضانة.

يذكر أن ليلى بمساعدة طاقم المستشفى تمكنت من التمسك بجنينها برحمها ثلاثة أسابيع إضافية و لأن الجنين قرر أن يبقى و تم إنقاذه و ولدت ليلى لتهب العالم الحياة و تسألهم الحب و المودة.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى