جمهورية مصر العربية
مهرجان همسة للآداب والفنون
قسم القصة القصيرة
المشارك: أكرم السياب
البلد: العراق
الهاتف: 9647807656393+
النص
مسمارُ رُحومي
اعتادَ رُحومي الخَبَلُ؛ أن يشقَّ السُّوقَ الصغيرَ بالطُّولِ والعرضِ أكثرَ من ألفِ مرةٍ باليومِ، ويُمارِسَ روتينَهُ اليوميَّ بانتقادِ أصحابِ الدَّكاكينِ والتعبيرِ عن آرائهِ السَّوداويةِ في الحياةِ، المشحونةِ بالبؤسِ، وربما تتعمَّقُ وجهاتُ النَّظرِ لتتحوَّلَ إلى بصقِ المارَّةِ رجالًا ونساءً حسبَ مزاجِ رُحومي وطبيعةِ يومِهِ كيفما كان.
رُحومي الأَچْلَحُ، عاشَ في هذا السُّوقِ المتفرعِ من السُّوقِ الكبيرِ في النَّجفِ، الملاصقِ لمرقدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ. شهدَ فيهِ كلَّ أحوالِ البلادِ، بَردِها وصيفِها، غلائِها ورخصِها، حربِها وسَلمِها. حتى باتَ إحدى انتيكاتِ المدينةِ.
منذُ ثلاثينَ عامًا نَزَلَ في هذا السُّوقِ وهو مَخبولٌ، لا يُعرَفُ تاريخُ عائلتِهِ ومن أينَ ينحدرُ. تضاربتِ الآراءُ حولَ أصولِهِ: منهم مَن قالَ: إنَّ أهلَهُ تركوهُ صغيرًا في إحدى الزِّياراتِ الدينيَّةِ، ومنهم مَن رَوَى أنَّهُ كانَ مَسجونًا في مديريَّةِ أمنِ النَّجفِ في الثَّمانينياتِ وهناكَ فقَدَ عقلَهُ. المهمُّ صارَ رُحومي جزءًا من حياةِ السُّوقِ والنَّاسِ.
يوميَّاتُ رُحومي روتينيَّةٌ ورتيبةٌ. لا يتكسَّبُ من مهنةٍ يُتقِنها ولا بيتًا يُؤويهِ. أينما عَصَفَ بهِ النُّعاسُ وحلَّ الهُدوءُ، افتَرَشَ الأرضَ بكارتونٍ مُقوَّى وراحَ يغطُّ نومًا. همومُهُ تنحصِرُ في مراقبةِ حِشمَةِ النِّساءِ والتدقيقِ بحجابِهنَّ. إذ يقِفُ منتصبًا عندَ مَدخلِ السُّوقِ؛ صارخًا باللواتي تَعمَّدنَ إظهارَ شَعرِ رأسِهِنَّ. وعندَ الظَّهيرةِ يَقرفِصُ رِجلَيهِ أمامَ الچايخانةِ الوحيدةِ في السُّوقِ، منتظرًا أيَّ شخصٍ كريمٍ يُذكِّرُهُ بكوبِ شايٍ أو قطعةِ خبزٍ.
في الچايخانةِ هذه، تجتمعُ كلُّ الطبقاتِ الاجتماعيةِ في المدينةِ، الموظفِ والعاملِ، الكاسبِ والجَّوالِ، أبناءِ السوقِ نفسهِ؛ والزائرينَ الغرباءِ من خارجِ المدينةِ. في مساحةٍ لا تتجاوزُ السَّبعةَ أمتارٍ مستطيلةِ الشكلِ، يتراصُّف المحرومونَ والمسحوقونَ ليأكلوا ما تيسَّرَ من خبزٍ وشايٍ وبعضِ القشطةِ المُغلَّفةِ جاهزةِ الصُّنعِ، وربما كبابٍ مشويٍّ من أحدِ مطاعمِ التَّجهيزِ السَّريعِ المُجاورةِ.
في الچايخانةِ ستسمعُ موجزًا سريعًا لكلِّ أخبارِ البلادِ. تحليلاتٍ سياسيةٍ ورياضيةٍ، نقاشاتٍ في العلمِ والدِّينِ والفلسفةِ، وكأنها جدارٌ حرٌّ يكتبونَ بهِ ما يشاؤونَ بعيدًا عن العيونِ.
ستجدُ قصصَ الدفَّانةِ وحكاويهم عن رعبِ مقبرةِ وادي السَّلامِ، ودهاليزِها المظلمةِ، وقصصَ الجِنِّ الذي يَتلبَّسُ بالإنسانِ؛ والطَّنطَلِ الذي يحمي قبورَ الأولياءِ من السَّرقةِ. ومطاردتِهم للسَّحرةِ الذينَ يَرمونَ الطَّلاسمَ وعزائمَ تحضيرِ الأرواحِ في المقابرِ.
ستطَّلعُ أيضًا على قصصِ المدنِ الأخرى من الزائرينَ الذينَ يُسافرونَ إلى المدينةِ، بدءًا من حكاياتِ المُضايفِ الريفيَّةِ وقصصِ البحَّارةِ في شطِّ العربِ، وصيدِ الأسماكِ في الأهوارِ العراقيةِ، وصولًا إلى مهنةِ التَّهريبِ في شمالِ العراقِ. الكذبُ هنا مسموحٌ والحقيقةُ مُطلقةٌ، يبقى المنطقُ هو من يفرزُ خيوطَ القصصِ.
الچايخانةُ هذه متنفسٌ آمنٌ لقلوبِ البُسطاءِ وملجأٌ وحيدٌ لكبارِ السِّنِّ الذينَ باتتْ قصصُهُم مُكرَّرةً ولم يجدوا من يُصغي إليهِم.
سمِعَ رُحومي كلَّ الحكاياتِ، وفي صدرِهِ حكاياتٌ كُثُرٌ. انعجَنَ مع الناسِ وذَابُوا بهِ، وكوَّنَ صداقاتٍ مع الغرباءِ وصارُوا يسألونَ عنهُ حينما يزورونَ المدينةَ.
لم يَقبَلْ رُحومي يومًا صدقةً تُعطَى لهُ من بابِ الشَّفقةِ، نفسُهُ عزيزةٌ وكرامتُهُ أكبرُ من ضيقِ ذاتِ اليدِ التي هوَ فيها. لا يطلبُ الطَّعامَ من مُسترِقٍ غريبٍ. يَكرهُ النقودَ ولا يَحتفظُ بها، مَن أرادَ أن يَتصدَّقَ لهُ بمبلغٍ، يَرفضُ ذلكَ ويُعبِّرُ عن انزعاجِهِ بالمضيِّ بعيدًا مُتمتمًا بسيل ٍ من السبِّاب.
ذاتَ يومٍ كانَ جالسًا يُراقبُ مجموعةً من عُمَّالِ البناءِ يأكلونَ على طاولةٍ صغيرةٍ داخلَ الچايخانةِ. أكَلوا ما يكفي شَبعَهم، وتركوا الخبزَ مكانَهُ ومَضَوا. في أقصى الچايخانةِ يسارًا شاهدَ رُحومي بقايا كبابٍ مشويٍّ تركَهُ صاحبُهُ بعدما أنهى طعامَهُ. ظَلَّ ينظرُ إلى الطعامِ حتى اجتمعَ عليهِ الذبابُ وتلاعَبَ بهِ الهواءُ حتى تَدَلَّى وسقَطَ أرضًا؛ فأجتمعَ نفرٌ من الدودِ حولَهُ يَقضمُونَ فُتاتًا منهُ ويمضُونَ إلى مخبئِهِم. قطعَ هذا المَنظرَ عاملُ الشَّايِ (سعيدٌ) حينما قَبضَ على الأكياسِ جميعِها دونَ مراعاةٍ أو ترتيبٍ ورَماها في سَلَّةِ النفاياتِ.
لقد ذهبتْ وُجبةُ الغداءِ عن رُحومي هذهِ المرةِ، لم تُسعِفْهُ الحركةُ ليَجمعَ ما تبقَّى من الطعامِ ويأكُلَهُ. حلَّ الليلُ وراحَ يُمارِسُ نشاطَهُ الرُّوتينيَّ بمُلاحَقةِ النِّساءِ اللواتي لم يَلتزمْنَ بالحجابِ الشَّرعيِّ، وتَشاجَرَ مع أصحابِ الدكاكينِ الذينَ يَجتمعونَ لإيذائِهِ يوميًّا.
أوصلتْهُ قدماهُ عندَ سَلَّةِ النِّفاياتِ الموجودةِ خارجَ بابِ الچايخانةِ؛ فوجدَ بقايا طعامٍ تكدَّسَ في السَّلةِ تكفِيهِ ليومينَ. سحبَ ما تبقَّى من ساندويشِ الفلافلِ فوجدَهُ نظيفًا. قَضَمَ منهُ، وراحَ يَسحبُ ما يَشاهِدُهُ نظيفًا من السَّلةِ: طماطمَ وخبزًا وصحنًا بلاستيكيًّا لَصِقَ فيهِ حليبٌ من بقايا القيِّمَرِ العراقيِّ.
رَمَقَ الچايخانةَ بنظرةٍ واسعةٍ فشاهدَ بعضَ الزبائنِ يأكلونَ، فَكَّرَ بداخِلِهِ: كمْ من الطعامِ سَيُرمى الليلةَ؟ وما حالُ هذه السَّلةِ التي لا تَشبَعُ؟ كيفَ لهذا الجمادِ المُدلَّلِ أن يكونَ ساكنًا بمكانِهِ والناسُ تَأتِيهِ بالطعامِ؟ بينما هوَ يتضوَّرُ جوعًا يوميًّا، ولا أحدَ يُفكِّرُ برميِ الطعامِ لهُ؟ وحتى وإن فكَّرَ أحدُهُم بذلكَ، فرحومي لا يُحبُّ الصَّدقةَ ولا العطفَ.
أصبَحتِ النفاياتُ هَمَّ رُحومي الشَّاغرَ. عندَ عتبةِ محلاتِ الصَّاغةِ المُقفلةِ ليلًا، وَضَعَ رحومي يدَهُ كوسادةٍ وفرَدَ جسمَهُ النَّحيلَ، وراحَ يُفكِّرُ بطريقةٍ للحصولِ على الطَّعامِ مثلَ السَّلَّةِ المحظوظةِ. كانتْ أمعاؤهُ تَنعصرُ جوعًا وتُطلِقُ أصواتًا تُزاحِمُ صوتَ تفكيرِهِ في حَسَدِ السَّلَّةِ.
عندَ الصباحِ، قبلَ أن يَعِجَّ السُّوقُ بحركةِ أقدامِ الزائرينَ، بينما بَدَتْ بعضُ الدكاكينِ تُفتَحُ، نَهَضَ رحومي مُنزعِجًا، عيناهُ مُحمَّرتانِ، لم يَنَمْ تلكَ الليلةَ جيِّدًا. منذُ سنواتٍ لم يَسهرْ هكذا. راحَ عندَ سَبيلِ الماءِ ورشَقَ وجهَهُ بالماءِ البارِدِ، مَسَحَ وجهَهُ بكُمِّهِ المُتَّسخِ، ولكنْ لم يبدأْ يومَهُ كالمعتادِ. لم يَشُقَّ السُّوقَ ماشيًا ولم يَهِتمَّ للنِّساءِ المُتبرِّجاتِ، بل حتى لم يَرُدَّ التحيَّةَ من قِبَلِ الأصدقاءِ الذينَ تَعالَتْ أصواتُهُم حينَ مَقدِمِهِ: هلا برُحومي!
طَرَّ الناسَ عن طريقِهِ وراحَ عندَ مَحلِّ الإنشائيَّاتِ في آخِرِ السُّوقِ، وقَفَ عندَ (سيدِ محمودٍ) صاحبِ الدُّكانِ وقالَ: انطيني بَسمارًا أطويلًا!
لم يَثْنِ سيدُ محمودٍ الطَّلبَ، سَحَبَ مسمارًا طويلًا وأعطاهُ لرحومي، وضَعَهُ في جيبِ دِشداشَتِهِ الطَّويلةِ وراحَ إلى الچايخانةِ. ولَجَ داخلَها، ثم أخرجَ المسمارَ من جيبِهِ وراحَ يُدخِلُهُ بالجدارِ. استعانَ بقضيبٍ حديديٍّ يَستخدمُهُ صاحبُ الچايخانةِ عندَ المشاجراتِ المُتكرِّرةِ في بعضِ الحالاتِ كَسِلاحٍ للدِّفاعِ عن النفسِ وتخويفِ البلطجيَّةِ. صاحَ به العاملُ سعيدٌ:
-
وَلَك رحومي شْجاي تسوِّي؟
خَزَرَهُ رحومي وعَقَدَ حاجبَيْهِ بغضبٍ. ضَجَّ الناسُ بسعيدٍ:
-
اتركهْ يَمعودْ، خَبِلْ..