د. حسام الدين ربيع راغب الإمام (د.حسام الإمام ) – جمهورية مصر العربية
01223354959- واتس: 01027002558
https://www.facebook.com/hosam.e.elemam/
_________________________________________________
مما علمنى ربى
(قصة قصيرة)
سجينان تأتيهما رؤى غامضة لا يدرون لها تأويلاً ، يأتيهما رفيق سجن حسن الوجه والخلق والحديث ، لهيبته ووقاره يهرعا إليه فيحكى الأول “إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَعۡصِرُ خَمۡراۖ” ثم يلحق به الآخر “إِنِّيٓ أَرَىٰنِيٓ أَحۡمِلُ فَوۡقَ رَأۡسِي خُبۡزا تَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِنۡهُۖ” ويرجونه متوسلين أن “نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِيلِهِۦٓۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ” .
لم يعتبرها الفتى فرصة لاستعراض قدراته الخارقة ، فهو نبى يعلم مهمته ، لكن كيف يؤديها؟ كيف يدعوهم إلى الله الواحد؟ وما حاجتهم إلى ذلك الآن؟ هم مشغولون فقط بتفسير رؤاهم. لذلك فكر وقرر وبدأ حديثه أن اطمئنوا “لَا يَأۡتِيكُمَا طَعَام تُرۡزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأۡتُكُمَا بِتَأۡوِيلِهِۦ قَبۡلَ أَن يَأۡتِيَكُمَاۚ”. ثم يوضح لهم أنى له تلك القدرة الخارقة ، ما مصدرها؟ ما سبب وجودها فى سيرته الذاتية؟ فيخبرهم “ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيٓۚ”. إلى هنا كان يمكنه البدء فى تفسير الرؤى ، لكنه نبى لديه منهج يحقق لهم مكاسب غير عادية. هو يعلم جيداً أن الهرولة إلى طاعة الله ليست أمراً يسيراً ، لذلك بدأ حديثه مطمئناً إياهم بامتلاكه المهارة التى يريدونها وموضحاً أن مصدرها هو الله سبحانه وتعالى . حديث غريب عليهم ، من هو الله؟ ولماذا لا تهبنا آلهتنا مثل تلك القدرات؟ فيخطو حينئذ خطوته التالية قائلاً “إِنِّي تَرَكۡتُ مِلَّةَ قَوۡم لَّا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ”. ازداد الأمر غموضاً! تقول أن إلهك علمك تأويل الأحاديث ، وأنك تركت ملة قوم لا يؤمنون به؟ فإلى أين ذهبت ومن اتبعت؟ فيأتيهم جوابه “َٱتَّبَعۡتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشۡرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيۡءۚ ذَٰلِكَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ عَلَيۡنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ”.
حتى تلك اللحظة ركز الفتى على عرض سيرته الذاتية وكيف نشأت وتطورت إلى أن أصبح ذلك الشخص ذو المهارة الذى يرجون منه تفسير رؤاهم . وبمجرد تيقنه أن المقابلة حققت هدفها وأنهم ينصتون إليه ، انتقل إلى خطوته الرابعة فعرض قضيته بمنتهى الود ” يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَاب مُّتَفَرِّقُونَ خَيۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّارُ” ، مؤكداً أن ما تعبدون من دون الله ما هى “إِلَّآ أَسۡمَآء سَمَّيۡتُمُوهَآ أَنتُمۡ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَٰنٍۚ” وفى تلك اللحظة عندما أصبحوا جاهزين لتلقى الأمر قال “إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ”.
عرض الفتى قضيته ، لكن هل انتهى الأمر؟ بالطبع لا فهو ما زال لم يجيبهم عن سؤالهم ، تفسير الرؤية التى انتظروا وأنصتوا إلي حديثه كرامة لها ، ليس من المعقول أن يكتفى الآن بهذا القدر وينهى المقابلة من جانب واحد دون أن يقدم الدليل الذى يثبت لهم صدق حديثه وقدرة إلهه غير المحدودة التى أنعم عليه ببعض منها ، فنجده يعلن لهم حل لغزهم بمنتهى الثقة والحزم “يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسۡقِي رَبَّهُۥ خَمۡراۖ وَأَمَّا ٱلۡأٓخَرُ فَيُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِن رَّأۡسِهِۦۚ قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسۡتَفۡتِيَانِ” .
موقف آخر يظهر فيه الفتى أن “أخذ الحق صنعة”
الملك تأتيه رؤية غامضة لا يدرى لها تأويلاً ، يرى فى منامه “سَبۡعَ بَقَرَٰت سِمَان يَأۡكُلُهُنَّ سَبۡعٌ عِجَاف وَسَبۡعَ سُنۢبُلَٰتٍ خُضۡر وَأُخَرَ يَابِسَٰتۖ” ويطالب من حوله أن “أَفۡتُونِي فِي رُءۡيَٰيَ إِن كُنتُمۡ لِلرُّءۡيَا تَعۡبُرُونَ” لكنهم يفشلون فى مهمتهم متحججين بأنها مجرد “أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰم”. لكن كان هناك من ينصت فيتذكر فجأة زميله فى السجن فينبرى إلى الملك بكل ثقة “أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأۡوِيلِهِۦ فَأَرۡسِلُونِ”. ويعرض الأمر على الفتى طالباً منه تفسيراً لما يؤرق الملك. تلك المرة لا يسهب الفتى فى عرض سيرته الذاتية ، كان ذلك مناسباً عند تفسير رؤى السجينين ليجذبهم إليه فينصتوا إلى دعوته ولو بدأ بتفسير رؤاهم ربما كانوا انصرفوا عنه ولم يلتفتوا إلى باقى حديثه ، لذلك بدأ معهم بما يريد وأجل ما يريدون ليضمن حرصهم على البقاء والانتباه إليه .
لكنه اتبع هذه المرة استراتيجية مختلفة تناسب الموقف
ملك فى حيرة من أمره ، كل من حوله عاجزين عن حل مشكلته ، والفتى لديه الحل لكنه يريد أن يثبت براءته للجميع ويخرج من السجن منتصراً لنفسه، كيف يفعلها إذن؟ أعطاهم هذه المرة ما يريدون دون مقابل فقال “تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِينَ دَأَبا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِي سُنۢبُلِهِۦٓ إِلَّا قَلِيلا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ” ثم أنذرهم أنه “يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ سَبۡع شِدَاد يَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ” وأخيراً بشرهم “ثُمَّ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَام فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعۡصِرُونَ”. وينهى الفتى حديثه تاركاً صاحبه يغادر السجن دون أن يطلب منه شيئاً ، ليعود إلى الملك ويخبره بتأويل رؤياه فينبهر الملك ويطلب رؤية هذا السجين. وتأتى اللحظة الحاسمة “فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ مَا بَالُ ٱلنِّسۡوَةِ ٱلَّٰتِي قَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيۡدِهِنَّ عَلِيم “. الآن تريدونه؟ فلتثبتوا براءته أمام كل الناس أولاً ، وبالفعل تنجح الخطة حيث لا يمكن أن يتجاهل الملك مطلب الفتى بعد تفسيره الرائع لرؤياه ، لا يمكن أن يضحى بتلك المهارة الفائقة التى أبهرت الجميع. فاتخذ قراره وأمر بالتحقيق فوراً فى تهمة الفتى؟ أيتها النسوة “ما خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِ” فتأتى الإجابة لتبرئ ساحة يوسف أمام الجميع “قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءۚ” ثم تنبرى من دبرت وكادت له معترفة “أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ”. ويحتار الملك ليس فقط لمهارة الفتى فى تأويل الأحاديث ولكن أيضاً لشخصيته التى جعلته محطاً لأنظار الجميع وإعجابهم ، فيصر على رؤيته والتعرف عليه وتقريبه من مجلسه والاستفادة منه إلى أقصى درجة ويأمر فوراً “ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ” ، ويأتى يوسف شامخاً ثابتاً منزهاً من الشبهات فيكلمه الملك ويرفع مكانته قائلاً “إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِين “.
كان يمكن أن يقوم سيدنا يوسف بتأويل رؤية الملك فيأمر الملك بإطلاق سراحه وربما أمر له بمكافأة ، لكن الاستراتيجية والتكتيكات التى اتبعها سيدنا يوسف كان لها وقع آخر. لقد تعمد أن يبهرهم أولاً بتفسير الرؤية التى عجز الجميع عنها ، فيكون من المتوقع أن يطلب الملك رؤية هذا الشخص الماهر فى تأويل الأحلام ولو على سبيل “حب الاستطلاع” ، وبالفعل يطلبه الملك فتكون المفاجأة أن السجين يرفض الخروج من السجن قبل أن يعيدوا فتح باب التحقيق فى قضيته ، من يفعل ذلك إلا من كان متيقناً من براءته ومصراً على إظهارها للجميع.
فى تلك اللحظة تتحول رغبة الملك فى رؤيته والتعرف عليه إلى رغبة فى إنصافه ، ويتحدث إليه ويدرك تميزه فيقربه منه ويجعل له مكانة متميزة تليق بأمانته وعلمه .. جعله على خزائن الأرض.