ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : والخيل لتركبوها. مسابقة القصة القصيرة بقلم / نور الدين زرفاوي / المغرب

نور الدين زرفاوي / المغرب
 
والخيل لتركبوها..
(قصة قصيرة)
كان “سيمو” مستلقيا أرضا على ظهره، مشبّكا يديه خلف رأسه يعدّ، للمرة العاشرة، درجات العامود الكهربائي المنتصب قبالته في شموخ وكبرياء. بل لقد وضع سيناريو محكما لتسلق هذا العملاق اللعين: ينتعل حذاءه الرياضي.. يحزم جسمه بحبل متين، يشد إليه ملقاطا حادا.. يتسلق الدرجة تلو الدرجة.. يتوقف برهة في الأعلى ليستردّ أنفاسه، ويستجمع قواه.. يتموقع في حذر قرب السلك الكهربائي المغطى بالمطاط الأسود.. يربط الحبل جيّدا إلى العارضة الحديدية.. يأخذ الملقاط.. يضغط عليه بساعديه المفتولين.. ينقطع الحبل المطاطي.. ينظر إليه-مبتسما-يهوي أرضا محدثا صفيرا كثعبان يتلوى من الألم..
جال ببصره يتفقّد شويهاته تقضم العشب بشراهة. وعندما اطمأن عليها، عاد وأغمض عينيه في ارتياح. ثم أراح رأسه المفعم بلذيذ الأحلام يتوسد التراب.. اقترب من الفرس الأصيل.. مسح بكفه على رقبته، وطبع قبلة على وجهه. ثم ربّت على كتفه كصديق حميم. صهل الفرس تعبيرا عن عرى صداقة لا تنفصم. ركّز قدمه اليسرى منتعلة “بلغة” صفراء في الرّكاب. وبخفة، لوّح برجله اليمنى، فانتصب جالسا على السرج الجلدي المطرز بشتى الألوان وأزهاها. عدّل سلهامه وجلبابه الحريرين على كتفيه. وعلى رأسه، تبّث عمامته البيضاء الناعمة كآخر لمسة من استعداداته. ناوله أحدهم “المكُحلة” مشحونة بالبارود. وبلمسة خفيفة من قدميه، تقدم به الفرس في خيلاء يستعرض “صُربته” بنظرات متفحصة ومحفزة، وكأنه “مايسترو” يضبط إيقاع فرقته الموسيقية. ثم انطلقت الخيول بقوة توري نارا بحوافرها، وتثير غبارا من خلفها.. وزغاريد النساء تصدح من كل جانب. والرجال مصطفين طول جنبات “المحرك”، وقد اشرأبت أعناقهم يتابعون “صُربة سيمو”، أو قل الفارس”سيمو”. كانت انطلاقة ناجحة كما خطّط لها. وكانت أيضا نهاية موفّقة كما أراد لها: انفجر خلالها البارود، وخرج الدخان من فوهات “المكاحل” في لحظة واحدة. علت بعدها زغاريد النساء، وهتافات الرجال حتى صكّت أذنيه. هرع إليه الأصدقاء، يهنؤونه ويطبعون القبل على وجنتيه..على وجنتيه، أحسّ أنفاس “سوسو” الحارة تلفحه. عانقها في حنان، ثم طبع قبلة طويلة على وجهها الجميل الفاتن..
“سوسو”..هذه الخروفة الصغيرة الظريفة، قد نفقت أمها أثناء ولادتها منذ شهور قليلة، فتكفّلها “سيمو”. أطلق عليها لقب “سوسو” لسهولة نطقه، ولتشابهه مع لقبه. ظل يرضعها حليب الشياه الأخرى كلما اشتكت جوعا. ويدثرها بجلبابه الصوفي الخشن متى ارتعشت بردا. ويحملها بين دراعيه كلما تأخرت عن القطيع، أو تاهت عنه. وعندما ترعرعت، أصبحت لصيقة به لا تكاد تفارقه لحظة، حتى ليشاطرها كسرة خبزه، وهو يرقب قطيع الشياه ترعى أمامه..
و”سيمو”..هذا الفتى ذي الثمانية عشرة ربيعا، فارس بالفطرة. مذّ كان في الثامنة من عمره، كان يهوى ركوب الجحوش، حتى لقد برع في ترويض هذه الكائنات الصغيرة العنيدة.. فكان كلما ولد جحش في “الدُّوار”، إلا وأسرع إليه متلهّفا، وظل يحوم حوله في تأن، يتفحصه بعناية فائقة.. وأخيرا يمنحه لقبا. ومنذئذ ، يظل ينتظره في لهفة وشوق كبيرين حتى يكبر، وتشتدّ عضلاته.. فيباغثه يوما بقفزة على ظهره. وفي الوقت الذي يظل فيه الجحش ثائرا يقفز في الهواء ويركل بقائمتيه الخلفيتين، ترى “سيمو” متشبتا بعُرفه، لصيقا بظهره كذبابة لعينة، إلى أن تخور قواه فيهدأ أخيرا. ويعيد “سيمو” الكرّة بعد الكرّة حتى يغدو الحيوان العنيد المتمرد سهلا، طيعا، مستسلما. فوق هذا كله، فلقد اكتسب مهارة التواصل مع هذه الحيوانات: يكفي أن ينطق لقب الجحش، فيستجيب له هذا تلقائيا، هازّاً أذنيه الطويلتين إلى أعلى، دلالة منه على توصله بالرسالة. كما تكفي لمسة من قدمه ليسرع في سيره، أو ليتوقف جامدا كصنم. حتى لقد اعتقد أصدقاؤه جازمين، بأنه قد وهب منطق الجحوش. فما لبث أن كون “صُربة” من أقرانه ينظمون السباقات ممتطين صهوات الجحوش، يفوز بها “سيمو” عن جدارة واستحقاق. فاعتبره جميع من في “الدُّوار” فارسا لا يشق له غبار. بل لقد تكهّنوا له بمستقبل واعد في الفروسية..
وعندما حضر ذات مساء، وهو في الرابعة عشر من العمر، وليمة عشاء أقامها أحد الجيران، واستمع لفقيه “الدُّوار” يرتل القرآن ترتيلا، لم تلتقط أذناه من الآية الكريمة سوى” والخيل لتركبوها”.. ومنذ ذلك الحين، تعلّق قلبه بركوب الخيل، فقرّر القطيعة مع ركوب الحمير.. أما الآن، وهو في ريعان الشباب، فكل طموحه أن يمتلك فرسا أصيلا، وأن يكوّن “صُربة” تحت قيادته..
جال بناظريه في الآفاق البعيدة، والشمس تميل إلى الغروب، والشويهات أمامه تقضم العشب في اطمئنان، و”سوسو” مضطجعة جنبه تجترّ ما اختزنته من عشب في جوفها طيلة النهار. ثم، تلقائيا، جرى بصره بين العمودين المتتاليين يقدّر المسافة الفاصلة بينهما، ومن تم طول الأسلاك المتدلية في الهواء كحبال من مطاط. لمعت عيناه، وهو يقارن المبلغ الذي سيذرّه عليه السلك النحاسي الواحد بثمن شويهاته مجتمعة.. بما فيها “سوسو” اللطيفة الظريفة..
ابتسم في هزؤ.. ثم اكتسحته لذة جارفة، وهو يقلّب الفكرة الشيطانية التي استحوذت عليه كلّية حتى أصبحت مشروعه الخاص. همس يحدث “سوسو”: “رَبْحة، ولّا ذبْحة”. ثم هشّ على غنمه بعصاه يقودها إلى البيت. وما أن ولجت النعاج باب الزَّريبة، حتى أوصده خلفها بإحكام، وأسرع إلى جنب الحائط المهجور، حيث يجتمع عادة شباب “الدُّوار” كل ليلة.. يغنون،ويمرحون.. يدخنون ، ويسكرون.. ويتدارسون مشاريع أقلّ ما يقال عنها أنها من وحي إبليس. ثم يناقشون أثمان النحاس المتداولة في السوق السوداء، وكأنهم في بورصة مالية. وهذا ما يهم “سيمو” بالضبط، فيغادر الجمع توّاً، وقد اكتملت لديه كل عناصر المشروع..
 
لم يكن يتوقع تلك السهولة والسرعة التي تسلق بها العامود، وقد كلّل الفصل الأول من السيناريو بنجاح باهر.. ومن عل، نظر إلى شويهاته ، فرآها ترعى مطمئنة غير مكترثة لشيء.. شاهد “سوسو” كعادتها منعزلة عن القطيع ترعى قريبة من العامود. لقد رافقته حتى تسلق أولى الدرجات، وكأنها تشيعه في رحلة. أحس بدوار عندما نظر مباشرة إلى أسفل، فسرح بناظريه بعيدا. لاح له “الدُّوار” يتأهب لاستقبال الليل. وفي الأفق، بدت له حمرة الشفق كدماء متجلطة. عاد ينظر إلى الحبل المطاطي الممتد أمامه إلى ما لا نهاية. ركز فيه بصره ببرود، كما يركز المقاتل الشرس نظراته في عيني غريمه. لم يقدّر أنه بهذا السُّمك.. من أسفل، كان يبدو له دقيقا. كالفحيح سمع صرير الريح عليه. أخذ جبينه يتفصد عرقا، ونبضات قلبه تزداد سرعة: يأخذ الملقاط بيدين ترتعشان.. يتنفس عميقا محاولا ضبط أعصابه المتوثرة.. يتبّث الحبل المطاطي بين فكّي الملقاط.. تشتد عضلات ساعديه وساقيه.. يضغط بقبضة من حديد، ثم.. انفجار عنيف، ووميض برق قوي خاطف، و.. جثة “سيمو” تحترق في السماء. على الأرض، فزعت الشيّاه تفرّ في كل اتجاه.. “سوسو” هرعت تحتمي ببنات جنسها.. في الأعلى، ظلت جثة “سيمو”، محترقة عارية، تتدلى في الفراغ قبل أن ينقطع الحبل تماما.. أحدث ارتطامها بالأرض صوتا مكتوما. فزعت الشويهات ثانية، لكنها لم تلبث أن عادت تلتهم العشب.. في حين، أسرعت “سوسو” نحو جثة مربيها. كان وجهه في التراب. تشمّمته للحظات، وأخيرا اضطجعت جنبه تجترّ.. وعيناها تلمعان في الظلام.
المكحلة: البارودة. المَحْرَك: ملعب الخيول “للتبوريدة”. “رَبْحة، ولّا ذبْحة”: مقولة مغربية.
صُرْبة: فريق من الخيالة. بلْغة: حذاء تقليدي (زي تقليدي مغربي). دُوّار: مجموعة سكنية بالبادية.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى