ريم محمد البسيوني
مصر
01013268804
قصة قصيرة/ورد
أنا الحياة وأنا الموت وعلى جسدي تكتمل
النواقص..أجمع بين كل التضاد..فأنا الجامحة الثائرة وأنا المعتكفة العابدة..أنا ورد
الليل هناك له طقوس خاصة لا تكتمل إلا إذا وقفت بتنورتها الحمراء القصيرة، تبتسم ابتسامة مصطنعة بدلال وتمنع، فيزداد اللهاث وتميل نحوها القلوب والأجساد لينسكبوا أمامها كالدلاء الممتلئة في غير تحفظ، آمنت بأنها مسيرة في طريق لم تختره منذ البداية حين قالت أمها
نحن لا نملك رفاهية الاختيار هذا كارنا نتوارث المهنة أما عن جدة
ماتت أمها فحملت راية المتعة من بعدها صاغرة، كانت تعلم أنها فاتنة وتعلم أيضا أنها متاحة
تعرف أنها حين تقبض الثمن يجب أن تعطي بسخاء، وفي كل مرة أعطت فيها كانت تفقد جزءا منها، جزء يغادرها بقسوة ولا يعود إليها أبدا
هكذا الحياة كما تعلمتها ورد على يد أمها، بيد أنها كانت تشعر بخواء ينهش جسدها، لم تكن طالبة المتعة يوما ولم تستلذ تلك الأيادي الخشنة التي تعبث بها ولكن لا يتقن المرء إلا ما تعلمه وهي تعلمت أن لجسدها البض سطوة حاضرة ولعودها الريان غلبة لا تقهر، ذات ليلة بصق عليها أحدهم فنظرت إلى نفسها في المرآة ظنت أنها ستبكي كما لم تبك من قبل لكنها لم تقو على البكاء فظلت حبيسة غرفتها لأيام
لم يطرق باب بيتها سوى (عباس ) المكلف بحراستها قامت بوهن لتفتح الباب
أخبرها بأن الزعيم سأل عنها وقال يحذرها
أنت تعلمين معنى أن يسأل عنك الزعيم ولا يجدك
آثرت الذهاب معه حتى لا تتعرض لسخطه
وكان الزعيم يتربع على كرسيه كملك يرتدي عباءة مزخرفة تواري سمنة جسده وقفت أمامه في وجل وانحنت لتطبع على يده قبلة مرتعشة
٩ مارس /١٩١٩
لاحت نذر الغضب في الأفق وانبعثت رائحة التمرد من كل شبر على الأرض الطاهرة، كل شيء أصبح قابل للاشتعال في لحظة
وانطلقت الجموع تخرج من كل مكان، التحمت الأجساد وانتفض الشعب
تعالى طرق شديد على باب بيتها فقامت مذعورة، باغتها شاب دخل إلى البيت عنوة بعد أن دفعها إلى الخلف وأغلق الباب، أمسكها واضعا كفه على فمها حتى لا تصرخ
همس في أذنها وقال وهو يلهث
لم يكن لدي خيار آخر
تعالى الطرق على بابها مرة أخرى بصورة وحشية ودون أن تفكر قادت الشاب إلى غرفة النوم وطلبت منه الاختباء تحت السرير
فتحت الباب فدخل جندي انجليزي أحمر الوجه مسح المكان بعينيه الزرقاوين، كان يحمل بندقيته مصوبا فوهتها نحو الأمام وسبابته على أهبة الاستعداد للضغط في أي لحظة طفق الجندي يبحث في أرجاء البيت وهو يزمجر بكلمات أجنبية لم تفهم منها شيئا
وصل إلى غرفة النوم فارتعدت فرائصها
زفر الجندي زفرة غاضبة قبل أن يعاود أدراجه ليخرج من البيت صاعدا إلى الأعلى، هرولت نحو غرفتها
وجلست على حافة السرير تحاول أن تعيد تنظيم وتيرة أنفاسها المتلاحقة خرج الشاب من مخبأه، شكرها بكلمات مقتضبة وهم بالخروج
طلبت منه أن ينتظر لبعض الوقت حتى يهدأ الوضع بالخارج
سألته
ما اسمك ؟
حسن
ماذا فعلت؟
-مد واحد منهم يده على فتاة كانت معنا فقذفته بحجر أصاب رأسه
وفي اليوم التالي رأته واقفا على باب بيتها أشار إليها فذهبت معه دون تفكير
كان جمع صغير في البداية لكنه ظل يكبر حتى شمل طلبة وعمال وأصحاب مقاهي وورش، لافتات ضخمة مرفوعة تحمل صور سعد زغلول
وجدت نفسها تردد ما يقولون بحماس، شعرت بالغليان مثلهم، تملكها إحساس جامح في أن تثور على كل شيء
كل خلية في جسدها تاقت إلى الحرية، ليس من قيد مستعمر فحسب، ولكن من قيد واقع مرير عاشته مرغمة، وحال كالوحل غاصت فيه حتى غرقت، طفت على سطح وعيها في تلك اللحظة صور مشوشة لوجوه من دنسوها كما دنس الإنجليز طهر المحروسة، ظلت عيناها مثبتتان بخوف على حسن الذي كان يقود الجمع في المقدمة، ثم تشابك الطرفان بعد أن أطلق الإنجليز الرصاص الغادر بعشوائية، غاب حسن عن عينيها، تداخلت أمامها المشاهد كلها فشعرت بالدوار وكادت أن تسقط، سحبتها يد قوية لمنطقة آمنة
وبعد أن هدأت خفقاتها وجدت نفسها وجها لوجه مع صاحب تلك اليد في قبو منزل قديم
لم يكن ذلك الشخص سوى حسن
قالت
أنقذت حياتي
أصبحنا متعادلين
جرح جبينك
.جرح بسيط يا ورد
تعرف اسمي؟
سألت عنك
سقطت دموعها خجلا وقالت بصوت ضعيف
كيف لي أن أطلب العزة والكرامة لبلدي وأنا فاقدة لهما
مكاني ليس معكم يا حسن
همت بالمغادرة فمنعها قائلا
-أنت وحدك صاحبة القرار يا ورد وعليك أن تختاري
ثم توالت لقاءاتهما في مكان بعيد تحت شجرة وارفة كانا مختلفين كقطبي مغناطيس متباينين، انصاعا لقوانين الفيزياء وانجذبا حد الالتصاق
عرف أن ذلك الجسد المنتهك ما زال يحمل روحا عذراء لم تمس، أشعل حديثه مواطن التمرد فيها فتخلصت من حياتها السابقة ضاربة بالزعيم وسطوته عرض الحائط، ولما علم الزعيم بأمرها أرسل عباس ليقتفي أثرها
قررت الذهاب إليه والوقوف أمامه وجها لوجه، لم تطلب الصفح منه ولم تنحني لتقبل يده ككل مرة
فوجىء الزعيم بورد جديدة عنيدة صلبة لا تكسر
كيف لتلك الفاتنة أن تخرج عن إمرته؟
كيف لها أن تقول لا في حضرته؟
قال والشرر يتطاير من عينيه
لم يخلق من يتمرد على الزعيم بعد
بصقت على وجهه فعاجلها بصفعة قوية وجرها لغرفة الدور الأرضي بنفسه وأمر عباس بحراستها
بعد عدة أيام انتقلت بأمر منه لغرفتها القديمة بعد أن فك قيودها، وأمر الفتيات بتزيينها لأول راغب متعة يطرق الباب
دخل رجل إلى غرفتها فتمتمت شفاهها بدعاء تمنت فيه الموت اقترب منها فانكمش جسدها، عرفت أن الأمر واقع لا محالة، استقرت عيناها على النافذة
مرت لحظات فتح بعدها باب الغرفة ليخرج منها الرجل ولم تكن ورد موجودة