ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : يارا العزيزة .مسابقة القصة القصيرة بقلم / محمد بوطيب . المغرب

يارا العزيزة⁦،

أَكْتبُ إلى قَلبكِ الصّغِيرِ في هذا المساءِ الدَّافِئِ لأتحدَّثَ إليكِ عن الحنان، هذا الإحساس الذي لا يُمْكنُ في غيابهِ تَصَوُّر أيّ شكلٍ من أشكالِ الحياة البشريّة المتكاملة والمتوازنة. ببساطة، لأنه لا يمكن للإنسان أن يعيش دون أن يُعْطِي من هذا الزاد الذي لا ينضب (الحنان)، ودون أن يأخذ منه في آنٍ واحد، فهو ضَرُورِيٌّ كالهواءِ أو أكثر!
هل تعْلَمِينَ أيتها الصغيرة، أن اسْمكِ وَحدهُ مُثيرٌ للدّهشة، فرَنَّتهُ لها وقعٌ خاص في قلبي…فكما سبق لي أن أخبرتكِ في رسالة سابقة، فاسمك مَأْخوذٌ من اللغة الفارسية من كلمة “يَارَسْتَنْ”، التي تعني الجرأة.
هكذا يحلو لي عندما أتأمّلُكِ أن “أتذوق حروف اسمك حرفاً حرفاً كفواكه موسيقيّة. ولا أشرب الماء معها لأحافظ على مذاق الدُّرَاقِ وعلى عطشِ حوَاسِّي”، كما كتب محمود درويش في أثرِ الفَرَاشةِ.
وقبل أن أحكي لك عن سحر هذه اللفظة الرشيقة، دعيني، في البداية، أُخبركِ أنني تمكّنتُ أخيراً، بفضلِ هذه الرسائل، من أن أخترعَ لنفسي ملاذاً خاصّاً يُعفيني من التورط وسط زوبعة “الأحاديث النخبوية” التي يحبل بها ضجيج هذا العصرِ المثخن بالعجز والتردد، حول الأحلام الجماعية المُجهضة، لأنه بقدر ما يهُمني إسقاط أسوار الظلم والحقد التي تُسيِّجُ علاقاتنا الخارجية، وتَحُولُ دون رؤيتنا للوجه المشرق للحياة؛ هذا الوجه الذي يستحق من الجميع عناءَ الكفاحِ لانتشالهِ من عَتمةِ الظّلام الدامس وجعْلهِ يتوهّج من جديد، مُعْلناً عن وجود أملٍ ما في نهاية هذا النَّفقِ الطويلِ والشَّاقِ، بقدر ما يَهمُّني أيضاً تصفية الحساب مع مُخلفاتهما في داخلي، عَمَلاً بروح الآية التي تقول: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”.
يارا، كوني على يقينٍ تامٍّ، من أن كائنات مشوّهة من الداخلِ لا يمكن لها، بأيِّ حالٍ من الأحوال، أن تساهم في تغيير العالم من حَوْلِهَا، فما بَالكِ إن كانتْ تَزعُمُ أنها تَحتكِرُ مفاتيح تغييره!
نحن المُتشبثونَ بتفوق العناق على الشًتِيمةِ والنَمِيمةِ، وبتَفوُّقِ الأمل على الألم وعلى مرارةِ اليأس المصاحبِ لأشعّتهِ الفَتَّاكةِ، والمُخَرِّبةِ لكلِّ ما هو جميل في النفس البشرية، غالبا ما نغْفل شَحذ عاطفتنا الأولى؛ قصدي الحنان ليس بصفته ضرورة معنوية فقط، بل باعتباره أَرْوَع صِفةٍ وأَصْدَق دليلٍ على وجود الإنسان كإنسان.
وبالعودة إلى معجم المعاني، نكاد نجد صفة الحنان تُغَطِّي كلّ شيء؛ الله والشجر والبشر: فهي من ناحية اسم مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسْنَى: اللَّهُ الحَنَّانُ، بتشديد النون، بِمَعْنَى الرَّحِيمِ، فبعد أن يئس النبي زكريا عليه السلام وامرأته العاقر من أن يخلفا ولدا بعد أن طعن في السن ووَهَن عظمه، وتمكَّن الشَّيْب من رأسه، ما كان من الله، حسبما تخبرنا سورة مريم، إلا أن وهبه يحيى وقال: “وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا”. وفي الكتاب المقدس جاء أن “الربُّ هو حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ”، ومن ناحية أخرى، يشمل الحنان عالم الطبيعة أيضاً، فعندما يَحِنّ الشجر ويُخْرِجُ نُورَه نقول حَنَّنَ الشجر، وعند البشر يعني الحنان رِقّة القَلبِ والرّحمة وفيض المحبَّة والعطفِ على الآخر.
هكذا يَتضِّحُ لكِ، يا يارا، أن الحنان هو صفة من صفات الألوهية وسمة من سمات الطبيعة الحية، فضلاً عن كَونهِ أنشودة بشرية دافئة تشفي الغليل ضد النسيان وتُعَوِّضُ القَلْبَ على حسرةِ الحنينِ إلى نشوةِ التَلذّذِ بمطرِ الطّفولَةِ، بل هو نفسه المطر الذي يُخَصِّبُ النباتَ الحالمَ في قلوب العُشَّاق ويُسْعِفُهُ على النّمَاء والتَّفَتُّحِ…وهو، كذلك، النُّور الداخلي الذي يُحَفز العواطف الأكثر دفئاً ونبلاً لدى الإنسان ويُلْهِبهَا عِشقاً وحياةً!
يارا، إن تبادل الحنان بين البشر مهما كانت طبيعة العلاقة التي تجمع بينهم، يُذكّرنا بأننا في حاجة إلى استعادة الإيمان الأول: الأُخُوَّةِ البشَريَّةِ!
فتأثير الحنان عبارة عن فكرة مفادها أن أحلامنا بما فيها تلك الصغيرة والتافهة جدّاً، يمكن أن يكون لها تأثيرٌ مُتفَاوتٌ على نظامٍ معقّدٍ من العلاقات الإنسانية المتشابكة بشكل مفرط، لأن الحنان هنا يبرز كشيء صغير ذي أثر كبير. فقليل من الحنان قد ينقذ شابا يائسا من الإرتطامِ بقاع اليأس، كما قد يزرع أسباب الصمود في قلب سجين منسي وسط زنزانة مطوقة بالقمع والبرد والنسيان.
نعم، يا يارا، فتأثير الحنان هو كل هذا وأكثر، إلى درجة أنِّي أكاد أزعم أن الحقد هو ورمٌ (نمو غير طبيعي ومفرط) يتشكل ضمن نسيج الخلايا العاطفية نتاج سوء تزود الروح البشرية بالحنان اللازم للحفاظ على طرواتها.
ها أنذا أرى وجهك مُغَطًّى بالأمل، أَرَاهُ طالعاً من قلب وردة مسقية بالدمع المالح…ليس هناك من مُقدسٍّ في الحياة سوى رفاهية الإنسان وسعادته الروحية والمادية، والتي لا يمكن أن تَتَفتّح إلا بإعادة تموقع الحنان في صفِّ الأمل، لأن لهما نفس المصير ونفس المعركة: انتشال الروح البشرية من مستنقع الحقد والتعصب، والدفع بها نحو بناء مملكة حنانها البشري!

طبعاً، للحنان حكايات أخرى، عدا ما حكيته لكِ في هذه الرسالة…كأن يكونَ لديكِ في حديقة البيتِ زوج حمام؛ الأنثى رقيقة ذات لون أبيض، وزوجها ذو لون مزركش بالأبيض والبني، تهتمي بهما وتطعمي فراخهما، بعد عودتك من المدرسة، كما تهتم قطة بصغيرها حديث الولادة!

 
مَحبَّتِي وحَنَانِي.
محمد بوطيب.
الرباط، 25 يونيو 2020.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى