ط
الشعر والأدب

قصة : يموت حلم ليولد واقع ..لأنور الخالد.سوريا

 

يغادر دار أهله محزونا خائبا، تبدو على وجه المتقطب كآبة جفاف حظه.

حب أمه له وبره لها يعزيانه عما يعاني من مرارة فقر مدقع وهموم ثقال.

تسندهُ عزة نفس و كبرياء بأن يكتم كآبته ويخفي كدره أمام كل من يعرفه.

يسعى إلى محطة القطارات القريبة من منزله بليلة من ليال الشتاء الباردة سوداء مظلمة كأنها لابسة ثياب الحداد.

أخذ تذكرة من كوة البيع المزدحمة بعد جهد جهيد وجلس في مقعده.

في تمام الساعة الثانية عشر بمنتصف الليل يمضي القطار بطيئاً. وضجيج الناس وأصواتهم من حوله لا تنقطع ولا تهدأ.

لم يكن شيئا ليلهيه عن كتابه الذي غرق بين صفحاته، وكيف يلتهي وفي الصبح موعد امتحانه.

حتى إذا انتهى من القراءة يضع كتابه جانبا ويرفع رأسه ليرنو لما حوله خلسة.

يرخي بصرة ينظر إلى الظلام الداكن خلف النافذه فلا يشاهد إلا صورته معكوسة. وكأنه يلمح وجهه لأول مرة . فقد بان أخدود على وجنتيه حفرته دموع البؤس.

يفكر بأحواله وأحوال عائلته التي لم تستطيع تأمين مبلغ بسيط يساعده لتدبر معيشته حتى اِنتهاء الإمتحانات الجامعية.

لم يتبقى معه سوى مبلغ زهيد بعد شراء تذكرة القطار ولا بد له عندما يصل أن يستدين من أحد زملائه.

يحاول النوم لفترة، فسفرته مازالت طويلة وقد تستغرق بضع ساعات.

والقطار يرعد و يهدر يتأرجح كلما يغير مساره، يتعالى صفيره عند يمر فوق جسر أو تحت نفق أو يعبر تقاطع طريق .

وعندما ينساب بسكون يهمد الجميع ويخيم عليهم نوم عميق.

يصل القطار إلى المحطة حوالي الساعة الرابعة صباحا والجو بارد ممطر عادة ما تكون أمتحانات الفصل الجامعي النصفي في شهر يناير.

ماذا يفعل الأن هاقد وصل وحافلة النقل الجماعي لن تصل إلا الساعه السادسة صباحا وجميع من نزل في المحطة إما أخذ سيارة أجرة أو أن أحد من أفراد عائلته كان بانتظاره.

يجلس على مقعد خشبي وحيداً يقرصة البرد يقف ويمشي جيئة وذهابا محاولا تدفئة جسدة المرتجف.

المحطة في غرب المدينة و الجامعة وسكنها في الجهة الشرقية وتفصل بينهما للدارج ساعتين وأكثر.

قرر أخيرا السير، وضع حقيبته الصغيرة على كتفه ويديه في جيب سترته يسير تحت أضواء الشوارع الخافته تلسعه الأمطار التي تفذفها الريح بوجهه وتلامس أحداقه ليغشى نظره.

يمشي مرتعدا وسط سكون لا يقطعه إلا صوت صفير الريح المتناغم مع وقع أقدامه على الطريق أو نباح كلب بعيد أو مواء قطة قفزت مذعورة عندما اقترب منها.

يمر بين الأحياء والأزقةالضيقة يحتمي بجدران المباني القديمة علها تصد عنه حدة الرياح الباردة.

بمنتصف الطريق يمر من أمام مخبز قد فتح أبوابه باكرا.

يشتري بما تبقى معه ثلاثة أرغفة يتطاير البخار من حرارتها. يدس إحداها على ظهره من تحت سترته و الآخر على صدره ويغلق سترته بإحكام ليشعر بالدفء ولو قليل و الثالث يأكله ليسكت بها عضة جوعه.

الساعة تقترب من السادسة صباحا عندما كان يطرق باب غرفة حارس المدينة الجامعية كي يفتح له البوابة الخارجية.

يسأله الحارس وقد رأى حالته أين كنت وما الذي أتى بك في هذه الساعة.

لا يجيبه لأن شفاهه اِزرقت وجفت الدماء بعروقه يركض باتجاه غرفته يخلع جل ملابسه ينشف بدنه يرمي بنفسه على السرير في نوم عميق بعد ما أصابه الجهد والإعياء.

يطرق الباب صديق له، يسأله عند عدم حضوره الامتحان .

يقف الشاب وقفة المتحير، لا يدري بماذا يجيب وأفكار تراوده أيظل في هذا المكان كي يتابع دراسته الجامعية رغم شعوره بذل الفقر والمهانة، أم يعود أدراجه إلى دار أهله ويترك سنوات من الدراسة،كد بها وسهر يلتحف كتبه وينام على حلم التخرج.

لقد نفذ الصبر منه بهذه الليلة.

أخذ يقلب الأمرين في خاطره وصديقه يكرر السؤال وينتظر منه الجواب.

انتهى به التردد إلى إتخاذ القرار.

يطلب من صديقه مبلغا دون أن يخبره أي شيء.

بعد مغادرة رفيقه الغرفة يلملم أغراضه مقررا الرجوع إلى مدينته نهائيا.

بعد مرور خمسة عشر عاما، تقف سيارة أمام مبنى السكن الجامعي في تلك المدينة البعيدة.

يسند جبهته على المقود يخفيه بين يديه رأسه يجهش بالبكاء بصوت عالي.

وزوجته وبناته الصغار أصابهم الذهول فقد كانوا في غاية السعادة بهذه الرحلةمعه فما الذي حصل؟

بعد تنهد يقول: من هنا مر أسوء يوم بعمري وانتهت به أحلام، ومن هنا ولد واقع جديد وبدأت تزهر حياتي.

أنور الخالد

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى