ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : يوم الرواتب . مسابقة القصة القصيرة بقلم / فاطمة شعبان محمد ..مصر

 

الاسم / فاطمة شعبان محمد
مصر
مسابقة القصة القصيرة
يوم الرواتب

 ككل صباح، تمد يدها بتباطؤ لإخماد الصوت المنطلق من العدم..

الروتين الصباحي؛ حمام دافئ، اختيار ملابس اليوم بعناية، بعض مساحيق التجميل البسيطة لتزيدها تألقً. لكن هذا اليوم يختلف، اعتذرت منها والدتها للتو، لا يوجد لدينا ما يصلح للإفطار “نفذ الطعام بنيتي، وآخِر ما لدينا صنعت منه بعض الشطائر لأخوتك الصغار.” تبتسم لها وتربت على كتفها “لا بأس يا أمي، فاليوم يوم الرواتب. سأشتري الطعام لاحقاً”.. تؤكد عليها معدتها الجائعة منذ الأمس وعدها.

تخرج من الزقاق إلى الشارع، ومنه إلى الميدان. تتنحي جانباً لتبديل حذائها المترب بآخَر نظيفًا ولامعًا، تلك حيلة تعلمتها لتفادي اهتراء أحذيتها الغالية من وسخ وتراب الزقاق. تحصي الأموال في حقيبتها، بالكاد تكفي لتوصيلها إلى مقر عملها. لا نقود للطعام.

في الطريق الطويل تسكت معدتها قليلًا مما يشعرها ببعض الراحة.. تتشاغل عن ضجيج السيارة المزدحمة بالأجساد والأنفاس والأحاديث، بسماع الموسيقي التي تصدح من هاتفها الباهظ الثمن.. تنتقل عبر النيل، من الحي الفقير لحي آخر متخم بالثراء، لا تصله المواصلات العامة، لذا تصل لأقرب نقطة وتستوقف إحدى سيارات الأجرة، حيث تعدل من هندامها، وتطلق شذي عطرها الباريسي، وكأنه طقس سحري لتتحول إلى واحدة من سكان هذا الحي.

في المبنى الفاره، الذي يحوي المئات من الشركات المحلية والأجنبية، يتبارى الجميع في الظهور بالماركات العالمية، والعطور الغالية، والحُليّ الذي ينتمي لأكبر بيوت الأزياء عالم آخر.. ولكنها أصبحت جزءاُ منه.

في المصعد كانت هناك فرصة للتفاوض مع معدتها الخاوية، فتعدها بوجبة دسمة فور الحصول على الراتب.

تدلف إلى مكتبها ويأتي عامل المقصف يسأل:

  • نسكافية كعادتك؟

  • كلا سأغير اليوم.. أعد لي شايًا باللبن مع ملعقتَي سكر، فأنا لا أحب طعم الشاي كما تعلم.

يبتسم “على الرحب والسعة” ويذهب، لتعود بذاكرتها إلى سنواتٍ مضت، كان كل ما تملكه كوباً من الشاي السادة المُحلّى بالقليل من السكر، ورغيفًا من الخبز. وجبة يومية رخيصة، تعينها على أثنتي عشر ساعة عمل في محل الملابس، فالراتب البخس وقتها بالكاد يكفي مصروفات الدراسة، وما تحصل عليه من بقشيش أو عمولات يذهب لمصروف البيت. يا لقدري الساخر؛ ترقد على مكتبي نظارة شمسية ثمنها راتب عام من محل الملابس، ولا أملك ثمن رغيف خبز!

تزمجر معدتها، فتتنبه أنها تركت في أحد أدراج مكتبها بعض البسكويت المملح، ربما ما يزال يصلح ليكون وجبة صباحية. تفتح الأدراج، بحماس يختفي مع كل درج فارغ من علبه البسكويت، ويقطع حيرتها سؤال زميلتها عما تبحث؟ تتردد لحظة لتخفف من حماسها الجائع، فتعاجلها الأخرى بإخبارها أن زميل لهم تأخر في العمل، وأستولي على العلبة عندما هاجمة الجوع ليلًا.

تبتسم، وتخبرها أن لا بأس، ها قد وصل الشاي باللبن واليوم ما زال في بدايته. ربما الانشغال في العمل أفضل، تغوص في ذكرياتها؛ بعد التخرج بشق الأنفس بقي السؤال الأكبر: كيف تحصل على وظيفة لائقة، وهي لا تملك سوي شهادة من إحدى الجامعات الحكومية!

كان تحدياً صعباً، فواصلت الليل بالنهار، تعمل في كل وظيفة متاحة، وتقتطع اليسير للدورات التدريبية، التي حرصت أن تكون من أرقى الأماكن. تسهر الليل تستذكر لتوفر ثمن مستوى من مستويات اللغة، أو مصروفات حضور الدورة، وتكتفي بالامتحان، عام، فاثنان فثلاثة، وأخيراً انتهت من دراسة لغتين، وتملك شهادات تؤهلها للعمل في أي مؤسسة. لم تتح لها الفرصة لتفخر بهذا.. فبطاقة هويتها، التي كتب في عنوانها زقاق فلان الفلاني، حالت بينها وبين الشركات الكبرى التي تحرص على استقطاب موظفيها من شريحة اجتماعية معينة.

هدأت صولة معدتها الجائعة قليلًا، وجنَّبَها السُّكر صداع نقص الجلوكوز في دمائها.. فسارعت للانتهاء من كل مهامها الروتينية. لا بأس في يوم بلا طعام، هو ليس الأسوأ على الإطلاق، فبعد وفاة والدها المفاجئة، تغير واقعها من صعب لغير محتمل؛ وكانت هي الكبرى، لكن والدتها أصرت أن تتعلم، وتحملت كلتاهما سنوات من الأعمال الوضيعة لسد رمق الصغار.

أما الآن، وبعد ان ترجت وألحت على زوج خالتها أن يسمح لها بتغيير هويتها إلى عنوان سكنهم الراقي -إلى حد ما- وادعت في مقابلات العمل أنها تفرغت بعد التخرج لتطوير ذاتها، استطاعت أن تظفر بأول فرصة. لم تضيع الوقت، فسرعان ما تعلمت كيفية المحافظة على المظهر، بادخار الأموال طوال العام لشراء العلامات التجارية في التخفيضات، الأحذية الغالية استثمار جيد، حيث تبقى صالحة للاستخدام مدة أطول.

تغيرَت؟ نعم تغيرَت كثيرًا، تعلمت كيف ترتاد المطاعم، وكيف تتبع قواعد المائدة. والتحدث بلباقة. أصبَحَت واحدة من بنات الطبقة الراقية بامتياز، منذ الصباح الباكر حتى الرابعة عصرًا، ثم تتجرد من كل هذا تمامًا، كسندريلا دقت ساعتها منتصف الليل، لكنها ممتنة للعمل الذي مكنها من صون والدتها.

هرج ومرج، فتنتبه، وتتساءل كغيرها فيصلها الخبر المشؤوم؛ لا رواتب اليوم! تحديث مفاجئ في نظام البنك الإليكتروني عطل تحويل الرواتب.

تحتج معدتها بقرصة جوع مفاجأة أشعرتها برغبة في القيئ، لكنها تماسكت. تحاول الاستيعاب، وتفكر في التبعات إن لم يكن باستطاعتها تدبير ثمن وجبة، فكيف بالعودة إلى منزلها، وكيف بعائلتها التي تنتظر الطعام! كاد اليوم أن ينتصف وتأثير كوب الشاي باللبن أنتهى.

الجميع يستعد لراحة الغداء. ليس لديها خطة.. والاستدانة من الزملاء ليس حلًا مطروحًا منذ انتقالها للعمل هنا. حرصت على المسافات بينها وبين الجميع خوفاً من اكتشاف حقيقتها. فعدم انتمائها لطبقتهم ستكون بمثابة فضيحة لن تمكنها من الاستمرار.

غارقة في أفكارها، ويأتيها صوت تعرفه “هل تقبلين دعوتي على الغداء؟”. يكرر دعوته يومياً، لكنها الآن وهنا لا تملك عقلًا يفكر، بل معدة خاوية.

شكرًا.. أنا لا أشعر برغبة في تناول الطعام.

قالتها مدعية التعفف، وتتمنى لو يلح قليلًا

  • أرجوكِ أقبلي هذه المرة فقط.. ثمة ما أود أن أتحدث معكِ بشأنه..

  • حسنًا.

قبلت وهي تتظاهر أنها على مضض، حرص هو على اختيار مطعم راقٍ هادئ، سارعت بطلب الطعام محتجة بضيق الوقت. كانت تتظاهر بسماعه في حين انها سعيدة جداً بالوجبة. تذكر نفسها أن كل شيء قد قارب على الانتهاء؛ شقيقها الأصغر يفصل بينه بين إنهاء خدمته العسكرية عام واحد، وقد أهلته جيداً لسوق العمل. كم سيكون مريحًا جدًا أن تمتد يدٌ لتساعدها.

أما هو فكان يحدثها عن مشاعره تجاهها، وعن رغبته المتقدة في الارتباط بها.. عن الفترة الطويلة التي قضاها في ملاحظتها حتى تأكد أنها فتاة أحلامه. صحيح أنه لم يأت من طبقة ميسورة الحال، لكنه الآن يستطيع توفير حياة ملائمة لكليهما…

قطع حديثة طنين الهاتف: حُلت مشكلة البنك، وتم إيداع الراتب.

كان هذا كفيلًا بإنهاء المقابلة الاستثنائية. شكرته على الدعوة الكريمة والوجبة اللذيذة والصحبة، تركته حائرًا غاضبًا مصدومًا من حسن ظنه بها، في حين أنها لا تختلف عن كل الفتيات المدللات اللاتي أفسدهن المال الكثير.

عادت إلى منزلها محملة بالطعام والفاكهة، وأحلام ومخططات كبيرة للغد، وهي تضع الأكياس على الطاولة ابتسمت في تهكم وهي تحاول تَذَكُّر عَمَّ كان يتحدث زميلها.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى