محمد طه شلبى
المنصورة – الدقهلية – مصر –
المشاركة في مسابقة مهرجان مجلة همسة للآداب والفنون ( الدورة الثانية)
القصة القصيرة
بعنوان ( كسر خوف )
عندما يقترب الليل، تبدأ دقات قلبه في التسارع ، تتراكم حبيبات من العرق فوق جبينه ، تقترب أمه من غرفته ؛ تطمئن أنه في مكانه …
– ( غسلت رجليك كويس … ) يبتسم …تحكم الغطاء عليه ، تقبله ، تحكى له حكاية الأميرة والفرسان الثلاثة …
– تصبح على خير
تغلق الباب ، تذهب… يستلقى ؛ ينظر إلى السقف، يرى أشباحاً تتراقص … تتسارع أنفاسه … يرفع الغطاء فوق رأسه، يبكى .. تبتل الوسادة … ينقلب على جنبه الأيسر، يغلق عينيه على نفس المشهد اليومي … أخيراً ينام .
يراهم قادمون … يتهامسون … يتحول همسهم إلى صياح ، يأتون كل يومٍ ؛ حاملين ذلك النعش اللعين ، يضعونه أرضاً ؛ يفتحونه ، يحبس أنفاسه، شذراً ينظرون إليه … يخرجون جثثاً لأطفالٍ كثيره … يحملق ؛ علّه يعرفهم، لا يستطيع تمييزهم … تحت سريره يقومون بالدفن … ينصرفون مع إشارة منهم له بالخرس …
مجموعة من النساء المتشحات بالسواد يتكاثرن …يملأن الغرفة؛ يصرخن … يهب فزعاً… يتبصص… لا أحد … يحضر كوب الماء؛ يشرب ، بطرف كمه المتدلي يمسح العرق ، بصعوبة يتنفس… يحاول أن يحكم الغطاء حول قدمه ؛ حتى لا يدخل أحد العفاريت المنتظرة نومه فيأكله…
يدس رأسه… زفيرٌ وشهيق … لا يستطيع حتى أن يغفوا، بتوجس يتسلل ؛ يخرج مسرعاً…
يذهب إلى حجرة والديه ، يتوجه إلى الجانب الذى ينام فيه والده، يعرف جيداً انه سينهره … لكنه خائف …على استحياء ، ينادى عليه:
– بابا … بابااااااا
لا يرد ؛ يغط في نومه .. سأل نفسه : كيف ينامون وكل هؤلاء الناس يتجولون بحرية هنا في منزلهم ؟؟ … يشعر الأن بالأمان …سيظل جواره …
في الصباح ، استيقظ الأب … فزع …
– بسم الله الرحمن الرحيم … أيه يا بنى .. هوّ كل يوم …
وجده واقفاً وخطٌ أسود من الدموع تحت عينيه ، كل يومٍ يستيقظ الأب ليجده بجانب السرير ، لا يتحرك، يبكى …
– خايب … طول عمرك خايب … هو انت هتنجح أبداً …
استيقظت الأم .. مصمصت شفتيها…
– قلت لك كام مره انقل السرير الجهه التانيه .. خلى راسه فى القبله .. الأوضه دى مبروكه …
ينظر الأب إليها ، يعقد يديه خلف ظهره ؛ يتحرك بعصبية ، يخفى الصبى وجهه ؛ يخاف أن يلطمه … تعاود الأم حديثها :
– جده محمد لما زارنا الشهر اللى فات ونام على نفس السرير جاله واحد وقاله قوم يا محمد صلى الفجر وروح أدى لاخواتك حقهم … من يومها حلف جده ما يجيش تانى عندنا .
يسمع أمه ، يريد أن يسألها ؛ هل اعطاهم جدى حقوقهم ؟ ماذا يعنى حق ؟ لم يفهم غير أن نفس الحلم يراوده كل يوم ، ولا يجد غير توبيخهم …
– خايب … طول عمرك خايب ..
يشعر بالرهبة من الليل ؛ كل هذه الجثث تحته ، لا يستطيع ان يخبر أحداً ولا حتى أقربائه؛ هم أشاروا إليه بالصمت ، وإلا أكلوا عظامه … قرر أن يحكى لأصدقائه – لكن – لا اصدقاء له في المساكن .. كانت صداقاته هناك في بلدة امه التى تربى فيها ؛ هو وافد جديد منذ شهرين فقط على منطقة المساكن بسندوب دقهلية ، حاول ان يتقرب إلى بعضهم … لكنهم يقهقهون عندما يرونه في الشارع ؛ كان جسده الممتلئ يغريهم بضربه .. أسرفت جدته فى علْفه، هكذا كان يقول والده …
يستمتعون بضربه ، بل يتلذذون… خاصةً حسن، ذلك الفتى الذى يتباهى بضرب هذا الوافد الجديد امام بنات الحى واللاتى يككرن من الضحك فينتشى ويصول ويجول في الاستهزاء به ؛ كما أنه كان يريد فرض سيطرته على المنطقة …
يعود إلى المنزل فاقداً إحدى أسنانه ينهره والده يندب حظه …
– جدك دلعك … هو انت ليه مش بتضربه زى ما بيضربك …
يبكى ..
فى اليوم الثانى راقبه والده ؛ وعندما بدأو فى ممارسة عاداتهم اليومية فى ضربه ، جرى الأب ؛ امسك بأحدهم … رفعه لأعلى … أشار إلية :
_ تعالى… اضربه …
لم يحرك ساكناً …
– تعالى …
تحرك قليلاً قليلاً … كان يعلم في داخله أنه يستطيع ضرب حسن ، شيئاً ما يمنعه ، كثيراً ما كان يضرب الأولاد في بلدة جده …
أقسم جده أن يرسله لأبيه من كثرة مشاغباته…
– تعالى اضربه …
اصبحت قدميه كأكياس الملح الثقال ، تحرك اخيراً… ما زال الأب ممسكاً بالولد … يتجه صوبه ؛ يرفع يده … يصرخ الأب :
– لكّمله فى مناخيره …
يعرف أنهم كثيرون وبعدما يرحل والده سيضربونه حتى يذوب لحمه ،
مد يده ليصفعه … تعالت الضحكات… لقد قام بقرصه كالبنات … أنزل ابوه الولد .. صفعه على وجهه … ذهب وتركه .
إستلقى جميعهم على ظهره من الضحك … تذكر يوم أن أتى من بلدة أمه التى تربى فيها … في طريقه ، رأه ، واقفاً بين سيارتين لنقل الرمل .. إحدى قدميه على سيارة ، وقدمٌ على الأخرى، تحركت إحدى السيارتين فجأة … سقط بينهما ، هرست السيارة رأسه … لم ينم يومها … كثيراً ما بكى .. كان يريد العودة إلى سرير جدته الدافئ …
ما زال حسن يشاغبه … تضج البنات بالضحك … ينظر إليهم … دائماً يحب اللعب معهم ؛ كان ماهراً في – السبع بلطات ونط الحبل – سيحرمه حسن من متعته الوحيدة منذ أن أتى إلى المنصورة تاركاً أصدقائه خلفه ، لايستمتع إلا باللعب مع البنات ونط الحبل والسبع بلطات ؛ هم يفهمونه ، لا يسخرن منه .. يراه قادماً … يفكر…يتردد… يتجه نحوه … يتسمر حسن ، شذراً ينظره … يتوعده … لا يأبه …
يواصل تقدمه .. توقف قبالته تماماً .. حبس الواقفون انفاسهم .. رفع يده اليمنى ، كورها ؛ بكل قوةٍ، لكمه … شهق الجميع … انفجر الدم من أنف حسن … يزأر …
– أيه دا يا حيلة أمك .. والله لاوريك …
هجم عليه.. كال له اللكمات … قوة شيطانية اعترته ، أخذ يضحك بهستيرية .. طارت كل أسنان حسن ..
فى اليوم التالى ، وجدوه يسير فى المساكن مرتدياً بيجامته الكستور ذات الأقلام الطولية ، كان منتشياً … لم يعد أحد يضحك عند رؤيته ، أرادوا مصادقته ، تنظر له الفتيات بإعجاب … قام والده بنقل السرير إلى الجهة المقابلة ، عندما جاء الليل، انتظرهم كثيراً ؛ أراد أن يلقنهم درساً قاسياً … لم يأتوا ثانية ، أخرج جثث الأطفال … دفنهم إلى الأبد.
أحب المنصورة وخاصة سندوب أما المساكن فكانت لها معزّة خاصة به … ففيها أظهر بطولاته المفقودة .. أصبح حسن من اعز أصدقائه ….