ط
مقالات وأعمده

كلام عــــلى الوتر…. بقــــلم : سمير فضل

“عندي ليكي حتة ملحن يجنن، مصر حتغني ألحانه اكتر من 60 سنة قدام “، بهذه العبارة الواثقة من كل شيء، يقدم الموسيقار الكبير ” محمد فوزي “، الوجهَ الجديدَ ساعتها، بليغ بن عبد الحميد حمدي مرسي، لسيدة الطرب العربي ” أم كلثوم ” ،  و هو إنكار ذات لا تقدّره إلا القامات السامقة الكبيرة من الكفاءات و المواهب، فمحمد فوزي لا يحرم ” ثومة ” تماما من الخروج من عباءة الحريم السلطاني، لهذا ” السنباطي ” المحافظ إلى حد الإختناق، و لكن هذا لا يكون على يديه، بل بفضل هذا المتمرد الجديد، الذي تقول عنه ” الست ” : هو إبني الذي يجب علي أن أتحمل شقاوته.

وفعلا يا فوزي، فلا تزال مصر وغير مصر، تغني ألحان هذا البليغ الذي لا يتكرر أبدا، و والله لقد أنصفكَ الزمن يا كبيراً أنت في كلّ شيء، فكان النشيد الوطني الجزائري من نصيبكَ، أنتَ الذي كنت تعمل وسط استهجان الجميع، و هم  يراهنون على فشلك، بعدما تعودوا منك ألحان الغرام، و نواعم النساء.
إنني أتذكر والغصة تعلو حلقي، كيف كان الإمام ” الغزالي “، طيب الله ثراه، يلتمس من موسيقار الأجيال، إدخال بعض التعديلات على لحن رائعة علي محمود طه، ” أخي جاوز الظالمون المدى “، فينزل الفنان الكبير، عند رأي الشيخ الجليل، فتشهد الدنيا تحفةً فنيةً بكل المقاييس، كلماتٍ و ألحانا وأداءً.
يحكي التاريخ، أن أول لقاء بين كوكب الشرق و ملك الموسيقى، تم في بيت الدكتور ” زكي سويدان” و قد كان بليغ يعزف وهو يفترش الأرض، وسط ذهول الحاضرين،  وما هي إلا لحظات، حتى تلتحق به السيدة الكبيرة، وتعانق معه هذا ” البساط الأحمدي “، طالبةً منه إكمال الكوبليه الأول، وبعد أيام تشهد سنة 1960 م ، رائعة
” حب إيه ” بثالوثها الجميل : عبد الوهاب محمد، بليغ حمدي، وأم كلثوم.
و سيبقى ” سلطان الرَّسْت ” ، كما أسميه أنا، ظاهرة فنية جميلة، يعزّ الزمن أن يجود بمثلها.
أعاين هذه الوقائع، ثم ألتفت إلى ” لعب العيال ” عندنا، فيجف الريق في حلقي، وأشعر بدوار غريب في رأسي، يدفعني إلى القيء و الغثيان.
فَعَنْ أي مدرسة يتحدث الهواة عندنا، وهم لا يفرقون بين مهرجان فني حقيقي كان يسمى ” ألحان وشباب “، أنجب لنا الروائع، وتهريج إعلامي كبير، لا يصلح إلا ليكون ملتقىً لكل أنواع ” الدراقاج “، من طرف مراهقين، لا شكل فيهم يعجب، حتى على مستوى الشكل، حتى لا نقول شيئا آخر.
إنني كنتُ أتعجب من سرّ إصرار الفنان الأصيل ” محمد ثروت “، على تسمية المطرب فقط، بعيدا عن كل الألقاب الأخرى، من قبيل الفنان والمغني وما شابه، لكنه وبعدما امتد بي الزمن، بدأت أدرك بكل الوضوح الذي لا تعكر صَفْوَهُ شائبة، أن درجة الطرب لا ينالها كل  من هب ودبّ.
لقد كان الموسيقار ” عبد الله كريو ” ، يصر على عدم ندمه على رفضه لـ ” الشاب خالد ” عندما تقدم لمسابقة الأصوات الجديدة لأول مرة، في حين كان كل صوت صحراوي جديد، يصل إلى المراحل النهائية بكل سهولة ويُسْرٍ، لأن عباقرة الموسيقى عندنا، ساعتها، كان يدركون أن أغلب الفن القادم من الجنوب، ذا طابع خماسي، وهو ما يجعله فنا سياحيا بامتياز، وبالتالي فإنه خارج التصنيف منذ البداية، فهم يقومون بعملهم، وما على الفارس إلا الإعتماد في النهائيات، على مهاراته الصوتية وحدها، أمام الميكروفون وجمهور ذواق، يكتشف ” النشاز ” من أول وهلة ، وسنبقى في الجنوب الشرقي الجزائري، نحمل للفنان الكبير ” عبد الهادي بلخياط “، كل مشاعر الحب و التقدير والإمتنان، هو الذي فضّلنا دون غيرنا من العالمين، بمن فيهم المغاربة الأشقاء، لنكون أول من يشنف أسماعه بآخر ما أبدع من أغانٍ :  ” حياتي ” ، ورغم ضيق المركّب في ورقلة، إلا أنه احتفظ لنا، وحدنا، بهذا البناء الفني الرفيع، هو الذي مرّ على الموقار و ابن خلدون، ومختلف المسارح الجهوية، قبل أن يحلّ ضيفا عزيزا عندنا، وهذا ما يشرح بشكل جيد، أن الرجل يعلم قبل غيره أين تمتدّ شعبيته، وأين تنكمش، وأين يمكنه أن يَصْدح بثقيل الألحان والكلام، وأين يكتفي بمحبوبي وذاك الإنسان، بعدما كانت عروس الواحات أول من جمعته بعبد الوهاب الدكالي قبل المغرب البلد الأصلي.
أرمق، سعة الأفق عند عملاق المغرب، ثم أعود، أُغَالِبُ الحَنَق،  إلى كلام صوتٍ شبهِِ نسائي يكذب على المصريين، وهو يخبرهم بأننا في وطننا نسميه بأم كلثوم الجزائر، فمنذ متى كانت صاحبة الأطلال تعاقر الخمر، أو تعقد معاهدةَ صُلحٍ بين  شفتيها ومختلف أنواع السجائر؟! ، مما دفع كروان نشرات الأخبار، ” خديجة بن قنة “، تقول عن هذا الصوت أنها تحبه عندما يغني، ولكنه تكرهه عندما يتكلم، وهو حديث كله صدق وجلاء، لا يفك شفراته إلا من ألقى السمع وهو شهيد.
سيبقى الفن برؤوسه السبعة، علامةً فارقةً، تشرح من خلاله الشعوب مدى رُقيها وتحضّرها وذوقها.
في لقاء حصري مع القناة الفرنسية الثانية، كان المنشط الظريف، يسأل الفنان الكبير ” علا البشاري”، عن وضع الثقافة في الجزائر، فيأتيه الجواب صادماً : أنا أحسنُ مَثَلٍ عن الثقافة في الجزائر، ففي أوروبا، يعالجون بموسيقايَ البشر وجنون البقر، وفي الجزائر لا يتذوقها إلا روّاد حلقات السّمر، بما تحويه من حشيش، وخمر ومناكر، وغياب تام للوعي !….
هذا هو الواقع عندنا، دونما رتوش، فإما أن ننتفض ضد كل أشكال الرداءة، وإما أن نفسح المجال واسعا أمام كل اللّقطاء، يعيثون في الأرض فساداً، ويصلون إلى جنة المال والثراء، دون تعب أو كلل أو سهر.
عندما نقول ” ستيفي ويندرز “، نقول ملكة بريطانيا، لأنه كان عازفها الشخصي، لكن من يتذكر أن العازف الموهوب والطموح، بدأ حياته حفارا للقبور، قبل أن يفقد بصره، فمن لنا بـ ” ستيفن ” آخر يهيل التراب على كل هاته المهازل الثقافية و الفنية، التي تعجّ بها الساحة عندنا.
تطالبني ” بلقيس ” الآن، بأن أعيد كل ما كتبته لأنه لا يروق لها، فألوذ بالعندليب الأسمر، أستعير منه الرد المناسب : لو حكينا يا حبيبي، نبتدي منين الحكاية ؟!…
محمد فوزى

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى