قصة قصيرة *
كل الطرق تؤدي إلى عينيك
بقلم/ د. وسيلة محمود الحلبي
قالت له وهي تجري مسرعة: لا يهم اكتبني كيف تشاء وأين تشاء فأنا المرأة الأقرب إلى قلبك.
ناداها وهو يعزف لها على الكمان: قفي لا تسرعي المسير، فكلانا خلق لنكمل بعضنا بعضا.
قالت له: اعزف أيها الحبيب فكل عزفك مدفون في قلبي وبين أضلعي.
قال لها: تعالي وارتاحي بين يدي، على صدري فأنا متعب، أريد أن أستمع إلى أنفاسك. ركضت صوبه وعانقته بقوة فوقع الكمان على الأرض وانكسر.
قال لها: اتركيه وشأنه، لا تنشغلي بأي شيء، أريد أن أعيش هذه اللحظة بعمق، وأغمض عينيه وأغمضت عينيها للحظات، لكنها كانت بسعادة العمر كله.
لم يمض على تعارفهما سوى خمسة أشهر فقط، كانت تدرس في كلية العلوم وكان زميلها في نفس الكلية. كانا كلما التقيا في بهو الجامعة تتحدث عيناهما الكثير، الكثير، في صمت أمام زملائهم، وكبر الحب في قلبيهما وانتعش أكثر حين كانا يلتقيان في المختبر لإنجاز بعض الأبحاث. حيث كانا يتبادلان بعض الأحاديث والنظرات خلسة، ويسرقان بعض الوقت بعد نهاية المحاضرات.
(هي سامية وهو علاء)
قالت سامية بشغف: علاء هل نلتقي مساء اليوم في الكوفي شوب؟
علاء: كنت أتمنى يا حلوة العينين، ولكن عندي الكثير من الأعمال الليلة، نلتقي في يوم آخر يا حبيبة القلب والروح.
سامية: لا بأس، لا تطيل البعاد فأنا أشتاقك كثيرا. هز علاء رأسه متبسما ولوح لها بيديه، وركب سيارته وانطلق مسرعا.
وفي اليوم التالي لم يحضر علاء للكلية، فاستغربت سامية وبقيت صامتة شاردة لا تتحدث مع أحد. ومضى يوم آخر ولم يأت علاء فازداد استغراب سامية وكانت قلقة جدا لغيابه، وهو المنتظم في دوامه، والأول على دفعته حاولت الاتصال به فلم يجب.
وبدأت تفكر – ترى ماذا حدث له –؟ وأسهمت في التفكير، ومسحت بكلتا يديها دموعا جرت على وجنتيها وبدأت تسأل عنه الرفاق، ولكنهم لم يشاهدوه.
وباتت المحاضرات ثقيلة كئيبة، ووقتها طويل جدا، وسامية شاردة ولم تع منها شيئا، وأصابها ملل وكآبة فخرجت من القاعة وهي مكتئبة وحزينة تفكر – ترى أين أنت يا علاء -؟
وماذا حصل معك لهذا الغياب؟ ترى لم لا تجيب على هاتفك النقال؟
أفكار سوداء تصول وتجول في خاطرها، ووصلت للبيت متعبة، مرهقة، باكية. ورمت بجسدها المتعب فوق السرير، وغطت في نوم عميق.
وفي اليوم التالي لم تذهب سامية للكلية. وغابت عنها ثلاثة أيام وهي متوترة، وعلاء لا يجيب على اتصالاتها البتة، قررت سامية مواصلة مشوارها التعليمي وذهبت للكلية، وتسمرت عيناها على إعلان كبير كتب عليه باللون الأحمر: زميلكم علاء في المستشفى، ويحتاج لزراعة قرنية، لأنه تعرض لحادث فقد فيه إحدى عينيه.
تسمرت سامية في مكانها، وأعادت قراءة الإعلان أكثر من مرة، علها تستوعب ما كتب فيه. وفجأة سارعت إلى الشارع واستقلت سيارة أجرة، وذهبت إلى المستشفى كالمجنونة، تسبقها دقات قلبها، وسألت عن غرفة علاء، ثم دخلت عليه وهي تبكي، واحتضنت كلتا يديه بيديها وقبلتهما بقوة وهي تقول: علاء! ماذا جرى؟ وكيف ومتى حصل ذلك؟
فرد عليها متثاقلا: في نفس الليلة يا سامية، نفس الليلة التي طلبت فيها أن نلتقي يا حبيبتي. حدث لي حادث تصادم شنيع وفقدت فيه عيني وتكسرت ضلوع صدري.
تظاهرت سامية بابتسامة، رغم الحزن الذي ملأ قلبها على حبيبها علاء. قبلت يديه بشغف وقالت له: ألف سلامة عليك يا علاء، لا تحزن، ستخرج قريبا، سالما معافى بإذن الله. واحتضن علاء بيده شعرها المتناثر وهو يقول: اذهبي في طريقك يا سامية، فأنا أصبحت بعين واحدة، لم أعد أليق بك وبجمالك.
نظرت إليه سامية وهي تبكي بكاء مرا وقالت له: أنا عينك الأخرى يا علاء، لن أتركك ما حييت. ومضت لحظات صمت كانت الأيادي متشابكة والقلوب متعانقة وأجواء الحب تملأ الغرفة.
سحبت سامية يديها بهدوء شديد وكأنها تسحب قلبها من صدرها، وخرجت من غرفة علاء، وجلست في بهو المستشفى، وهي تفكر ماذا ستفعل؟ وكيف ستنقذ حبيبها مما ألم به.
وبدأت تسأل نفسها: هل هي تحب علاء بصدق؟ وهل يستحق علاء أن تضحي بعينها لأجله؟ هل ستعيش معه وهو بعين واحدة؟ هل، وهل، وهل، وبدأت الأفكار تداهمها، وهي تشد شعرها، وتبكي بحرقة.
يا الله لماذا حبيبي، يا الله ساعدني. وتسمرت عيناها على الجدار، وهي تتخيل لوحة الإعلان التي قرأتها في الكلية.
وفجأة أسرعت سامية للدكتور المعالج، وسألته عن كيفية مساعدة علاء لاستعادة نظره. فقال لها الدكتور: إن وضع علاء صعب جدا، فهو يحتاج زراعة قرنية.
فهرعت سامية إلى غرفة علاء، ووقفت عند الباب تتأمله، وتستعيد ذكرياتهما معا في الجامعة، في المختبر، في الطريق المؤدي للبيت، في الكوفي شوب، ودموعها لم تجف أبدا. وكان يكلمها، ولكنها لم تكن تسمعه، ثم خرجت من عنده وهو مشدوها لماذا لم تكلمه كلمة واحدة. لماذا خرجت فجأة وإلى أين؟
ومرت الأيام ثقيلة جدا على علاء لأن سامية لم تأت لزيارته مرة ثانية، ثلاثة أيام مرت وكأنهم ثلاث سنوات. ورغم آلامه المبرحة كان علاء يشتاق إليها كثيرا. وكان يتعبه غيابها ويفقده أمل اللقاء.
رغم أن سامية لم تبرح المستشفى، ولكنها لم تذهب لغرفته أبدا. وفي صبيحة اليوم الرابع، نامت سامية فوق السرير، في غرفة العمليات- بعد أن وقعت على إجراء العملية- وزرع قرنيتها لحبيبها علاء.
فوجئ علاء بأن له متبرع بالقرنية، ففرح فرحا شديدا، وحمد الله أنه سيلتقي بحبيبته سامية طوال العمر، بعد عودة النظر لعينه المفقودة.
وتم زراعة القرنية لعلاء، دون أن يعرف من هو المتبرع، ورغم إلحاحه بالسؤال عنه. وبقيت سامية في المستشفى ثلاثة أيام بعد العملية، ثم خرجت منه بعد أن كانت تزور علاء أثناء نومه، وتستمتع برؤيته، وهي فرحة بأن قرنيتها استقرت في عين حبيبها، وأنه سيرى بعينها، وسيتابع دراسته.
استغرب علاء عدم زيارة سامية له. وبدأ يتألم كثيرا والشوق يضنيه والتفكير يؤلمه، وكان يطلبها على هاتفها النقال، ولكنها لا تجيب. في حين أن سامية كانت ترى اتصال علاء، وتبكي بحرقة ولا تستطيع الرد عليه ومضت الأيام، وخرج علاء من المستشفى سالما معافى، يرى بعينيه الاثنتين. وعاد إلى الكلية وكله يقين أنه سيلتقي حبيبته سامية هناك، ولكن أحلامه لم تتحقق. وسأل عنها الرفاق، فعرف أنها نقلت إلى جامعة أخرى.
ابتعدت سامية عن حبيبها وهي شديدة الاشتياق له. ولكن كانت تقول: انه يرى بعيني وهذا يكفيني. كيف سيعيش مع امرأة بلا عين – قمة العطاء وقوة الحب الصادق-
حاول علاء أن يستقص عن أخبار سامية من خلال الأصدقاء، إلى أن عرف مكانها. وفاجأها بزيارة لها في جامعتها، وفوجئ بارتدائها نظارة احتضنها بعينيه، وقال لها: اشتقت إليك، لم تركتني في عز مصيبتي ومرضي؟ لم تركت الجامعة؟ لم لا تردين على الهاتف؟
بكت سامية بحرقة، وشدت يديه إلى صدرها بقوة عجيبة، وقالت له وهي تترنح: (كل الطرق تؤدي إلى عينيك) يكفي أنك ترى بعيني يا علاء أحبك.. أحبك.. أحبك.
وسقطت سامية على الأرض وسلمت روحها لله، فاحتضنها علاء وهو يصرخ أنت إذن يا سامية، أنت إذن يا غالية، أنت يا من تسكنين الفؤاد. لا.. لا تذهبي،
لا. لا تتركيني وحدي يا حبيبتي، ولكن سامية لم تسمع توسلاته فقد ذهبت إلى بارئها، وتركت عينها تعيش في جسد حبيبها إلى الأبد