ط
مسابقة القصة القصيرة

لحظة قرار. مسابقة القصة القصيرة بقلم / رنا العسلى . سوريا


رنا العسلي ..سوريا.. قصة قصيرة
لحظة قرار
يستلقي حازم على سريرهِ الأبيض في غرفةٍ بيضاء وكل العيون الخائفة القلقة تنتظرُ نتيجة العملية الجراحية التي أُجريت له بفارغ الصبر .. يفتحُ عينيه ببطء ويستقبلُ الحياة التي عادَ إليها بقرار ..لكن قرار من هو لايعلم ..كل مايعلمهُ أنّ أحدهم تبرع له بقلب دونَ أن يذكر اسمه ..وحازم حملَ في داخلهِ مع تلك العودة الإمتنان والحب للقلبِ الذي أعاد إليه حياته ..
ابنهُ الشاب شادي يبكي وهو يومئ لهُ بإبتسامة أمل في الوقت الذي تحررتْ به دمعةُ شكرٍ على وجه حازم
– يبدو أنّ لي بعضُ الأيام القادمة معك يابني ..
يهزُ شادي رأسه ويقبلهُ على جبينه وهو يستلذُ بطعمِ الصباحِ الجميلِ بعد فترة المرض الطويل الذي عانى منهُ الكثير ..
مرت الأيامُ القليلة الأخيرة بحب وفرح حتى أُعطي الأذنَ بالخروج من المستشفى وأنهُ أصبح قادراً على المضي بحياتهِ بسلام ..ضمّ أصابعَ شادي وخرجا معاً من البابِ الزجاجي للمستشفى الذي حضنَ كل آلامه بالفترةِ الأخيرة ..
يتنفسُ بعمقٍ ويخبرُ شادي عن جمال احساسه وكأنهُ وُلد من جديد
– هل نتمسك بالحياة يابني لأننا نخافُ الموت أم لأن فيها من نحب ..
يضحكُ شادي ويخبرهُ بأنه يعتقد أننا نخاف ونحب معاً
يطلب حازم من شادي أن يتركهُ لوحدهِ في الشوارع فله رغبة بالمشي وحيداً فيلبي طلبه بفرحٍ كبير ويتركه لإحساسه الذي نما داخله منذ استفاق من التخدير ..
تلذذَ حازم بطعمِ الاستسلام للطرقات وانساق مع كل الأوامر التي وجهتهُ بها أسئلتهُ وأفكاره ..شاهدَ اللافتات والاعلانات وجلسَ على بعض المقاعد المخصصة للعابرين ببعض الساحات ..قرأَ وجوهَ المارة وأبتسمَ للأطفالِ بفضول ..اجتاز كل بقاع الروحِ الساكنة واجتازَ سماوات الحلم ..هي عودةٌ أم ولادة لافرق ..المهم أنهُ أُنتشل من سقوطهِ ..اصطدم أثناء شرودهِ بإمرأةٍ أربعينية فاعتذر منها وأكملَ طريقهُ حين شعرَ أنّ هناك نظرةً تراقبه فالتفت ليجد الامرأة مازالت واقفة تحدق به ..لايعلم كيف ملك الجرأةَ كي يعودَ ويسألها إن كانت تريدُ شيئاً فارتبكت ملامحها ودمعت نظرتها واعتذرت وغادرت مسرعةً
حيرهُ أمرها وكان يودُ أن يلحق بها لكنه خجلَ من تصرفهِ فانسحب من جديد وعادَ إلى منزلهِ مرتاح البال ..
كان شادي يُعدُ لأبيه وجبة الغداء التي يحبها ويطعم العصافير الصغيرة التي تنتظرُ والده بصبر ..سمع صوت المفتاح في باب المنزل فأسرع باتجاهِ الباب كي يجد والده مشرقاً بالنور الذي ارتداهُ وتشبث به ..حملَ عنهُ معطفهُ وجلسا يتناولان الطعام وحازم يحدثه عما شاهدهُ في الشوارع وعن المرأة التي اصطدم بها وعن حيرتهِ بأمرها حتى الآن ..
تمر الأيام جميلة برفقةِ الرجلين فلقد فقد شادي والدته منذ خمس سنين وبقي مع والده كل الفترة التي تلت فراق أحب انسانة على قلبهما
استيقظا اليوم وقد كانا على موعدٍ معاً لحضور مسرحية قريبة ضجت بها المنطقة فقررا حضورها ..حملا ابتسامتهما التي لاتفارقهما وانطلقا معاً حيثُ الحشود الكثيرة تتدافع لالتقاط التذاكر من الشباك المخصص للحجز ..اقترب شادي من الحشود واستطاع الحصول على تذكرتين لهما وانطلقا إلى أماكنهم المخصصة .
قفزت البطلة على المسرح في عرض “مونودراما” عبق بمحاورة الذات وشد حازم بشكل كبير ..الإضاءة على البطلة ..احساسها يملك المسرح ..تثور حنجرتها بالسؤال ..
“” من هي?.. سؤالٌ حاورها ..قطع أوصال الفرح ..أحضرت هي كتابها ..وحقيبةً تحوي الخلاف والشفاء ..عانقت مقبض الباب بحنو جميل ..ضمته إلى حائط العمر الماضي ..ومضت دون أن تلتفت إلى الوراء ..لأن هذا الرحيل بلا دموع ..هو عودة إلى ..هي.. التي تركتها منذ سنين تقتاتُ من الإنتظار “”
علا التصفيق ووقف حازم يصفق بحرارة وعلى شرفة الأمنيات الواسعة المطلة على موج الأستقبال الجميل أمسكَ نظرتها تلك التي دمعت لحظة اصطدامهما وعبرّت عن “هي”
تخرجُ البطلةُ من المسرح لتجد الجمهور الملتف حول بابها من أجل أن يحصل على توقيعها ..تجاملُ الجميع وتلقي التحية إلى أن تصبح أمام حازم من جديد ..ترتبك ملامحها ويدرك ارتباكها فيطيلُ مكوث أصابعها في كفوفه كرجاء صامت بين الأثنين ..يستغرب شادي تصرف والده لكنه يستغرب أيضاً رضوخ البطلة إلى تلك اللحظة ونظرة الحزن التي تحكي الكثير في عينيها فيقتربُ شادي ويدعوهما إلى أقرب كافيه للتحدث قليلاً فتوافق ويوافق وكأن الأصوات التي في داخل كل منهما تلاقت وتعانقت حتى باتَ الجوابُ شبه ضرورة وحاسم ..
في المقهى القريب كان كلاً من الأثنين قد تحرر من عقدةِ الدهشة قليلاً وكانت البطلة رفيف تبتسمُ بهدوء وهي تحرك فنجانها بين أصابعها وتشرد في الرغوة التي تشدها .. أما حازم فكان ينظر إليها فقط قبل أن يقطع حبال الصمت ..
– هل لي بسؤال ?
– لاتسأل
– لماذا?
– لاأستطيع أن أجيب
-وتتركيني في حيرتي
-لكني لستُ محتارة
– تلك أنانية
توقظها الكلمة من لحظة شغف جميلة كي تنظر إليه بثقة وتخبره أن يستمتع بإحساسه دون أسئلة ..
– لكن إحساسي ينقصه التفسير
– أخبرني كيف تشعر?
– أشعرُ أني أحتاجكِ رغم أني لاأعرفك ..تعتقلني نظراتكِ فتُشعرني بالإمتنان ..وأنا رجلٌ كبير عامرٌ بالنضج وأستطيع أن أميز معنى أن أحاور احتمالاتي ..الأنا لدي تضخُ الحروف التي أخشى خروجها كي لاتُفسر بطريقة خطأ..
يقاطعه شادي ليوقفَ سيلَ كلماته لكنه يطبطب على يديه ويكمل ..
– ابني يخشى مايسمعهُ لأنه لايعرف عن والده أنه متهور ..لكني لست متهوراً ولامراهق ..أنا أضم نظرتكِ وكأنني داخلكِ فكيف ينمو ذاك الإحساس من فراغ
كانت رفيف تسمع والدموع تنهمر على وجنتيها بحب فكتبت له ورقة صغيرة وطلبت منهُ ألا يفتحها إلا حين تغادر ..وحين فتحها وقرأ مافيها ابتسم مطولاً وأعطى الورقة لشادي كي يفهم حروف أبيه أخيراً
” لقد أعطيتكَ قلب ابني ”
نظر شادي إلى والده ثم إلى الباب الذي خرجت منه تلك التي منحتهم الحياة بلحظة قرار…
النهاية

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى