ط
الشعر والأدب

. لست خائنة….قصة قصيرة بقلم دعاء أحمد

دعاء احمد
سافر ابنها الوحيد ليكمل تعليمه بالخارج ، مقيمًا مع جدته المتسلطة ، التي تشبَّع حفيدها من كبريائها ، و شرب طباعها منذ أن كانت تختلسه من حضن أمه بحجة قضاء عطلته المدرسية معها ، و على أمه أن تكتفي بشهور الدراسة ، و كأنها تملك فيه أكثر من أمه .

و بما أن جدته من أشهر سيدات الأعمال نجاحًا بباريس ، فقد أغرته بأنه سيشاركها مجموعاتها الاستثمارية ، و سيكون أكبر و أنجح رجال الأعمال ، و أصغرهم سنًا .
نجحت أن تسرقه كليًا ، تاركًا أمه لوحدتها ومهدئاتها التي ترحمها وتغيب بها ساعات الليل عن وحدتها الموحشة ، اشتد تعبها وبدأ كيانها يعلن عصيانه صارخًا : هنا إنسانٌ يتدمر .
بدأ دمارها الداخلي المختبئ يتسرب ، و يطفو الوهن بسطح جسدها ، فقررت قسوة زوجها أن ترحمها ، مقررًا السفر معها ، واعدًا إياها بالجنة ، مبديًا تأسفه عن إهماله لها و انشغاله الدائم في أعماله ، صدقته المسكينة و هي لا تعلم إن شفقته المرجوة بناءً علي إلحاح الطبيب بضرورة ذلك ، حتى لا تكون صورة باهتة بعالمه ، فعالمه الذي تطغى عليه المظاهر ، لا يليق فيه بسيد القصر و الجاه أن يبدو مهملاً لزوجته ، فحياتهما الزوجية تبدو للناس ككتاب غلافه أنيق من الخارج ، لكن صفحاته سوداء من الداخل .
أخذت هدنةً من منوماتها ، خادعةً نفسها بأنها لم تعد بحاجةٍ إليها ، لعله شعاع الأمل أشرق بظلمتها باقتراب زوجها من مشاعرها ، أخيرًا ستترك العنان لرومانسيتها الفياضة ، و قبل أن تحلق بسمائها ، كُسِر جناحاها ، سقطت أرضًا بحقنة مسممة ، لمحته من شرفتها يتسلل كاللص إلي غرفة الخادمة ، متسترًا بظلمة الليل ، فضحته الأضواء الخافتة بحديقة الفيللا ، تتبعت خطواته فاكتشفت ما كان يحدث كل ليلة ، خياناته لها مع الخادمة ، يا لها من مواجهة ، تسمَّر مكانه وانكمش بعريه، صدمةٌانتابتها بصمتٍ ظل معها كظلها ، و خيَّم على حجرتها حتى حان موعد السفر .
اتجهت إلي السيارة ، حاول الخائن الاقتراب ، فإذا بإشارة يتيمة منها بالابتعاد تضع خطًا أحمر ، اتجهت بصمتٍ إلي السيارة ، ركبت بمفردها مع السائق الخاص ، و الخائن يترقبها بحذر شديد ، يخشى من انفجار بركان صمتها .
حان موعد صعود الطائرة ، فهم أنها ستكمل رحلتها بمفردها ، كان لا يملك إلا أن يتركها تفر من رائحة الخيانة ، اصطحبها صمتها ، كان جليسها الوحيد ، وصلت إلي الفندق و صعدت لغرفتها ، و هناك دعى السرير جسدها للنوم ، لعلها ترتاح قليلا ، و بعد ساعةٍ أرسلت لها الطبيعة الخلابة دعوةً مع نسماتها الساحرة ، لعلها تطيب جراحها ،و هناك علي الشاطئ جذبها البحر ، و طلبها لتتراقص مع أمواجه ، و احتضنها لعلها تذيب أحزانها كملحه ، لكن بدأت الأحداث تندفع بداخلها كموجات البحر التي غافلتها و رمت بها لشاطئ آخر مجاور لشاطئ الفندق .
شعرت بالتعب ، فخرجت من البحر،و ألقت جسدها المتعب على مقعدٍ أمام شاليه خاص ، تزايدت موجات غضبها وأصابتها بدوارٍ شديد ، فغابت عن وعيها ، فإذا بشاب وسيم يخرج من الشاليه ليجدها أمامه ،وبروحه المرحة قال لنفسه :
– أظنها عروس البحر تخدعني بنومها لتجذبني فجأة لأحضان بحرها ، لكن وجهها الملائكي لا يليق بخديعة .
أمسك بيدها محاولاً إيقاظها ، فشعر ببرودتها تناجي إنسانيته فحملها إلي سريره ، و أدفأها بغطائه ، و استدعي طبيبه الخاص ، الذي طمأنه عليها ، و بعد أن أفاقها نصف إفاقة ، نظرت حولها تستغرب المكان ، تخلي عنها صمتها وهي تتفقد أرجاء المكان :
– أين أنا ؟ .
فأجابها عمر: – أنت في أمان .
صدقته قوله ، فقد كانت تشعر بدفء و أمان و رغبة في نومٍ عميق ، غفت عيناها ، و كأنها ستلحق بآخر قطار ليعيدها لحلمٍ ورديٍ تركت فيه نصف روحها .
همس الطبيب قبل أن يخرج : – اتركهالتستريح .
جلس عمر بهدوءٍ شديدٍ علي كرسيٍ بجوارها ، حذرا من أي ضجيج يسلبها نومها ، استغرقت في نومها ، و هو متمتعٌ بتأمل وجهها الذي رسمت عليه بسمة طفلٍ تداعبه الملائكة ، و بحركة شفتيها كأنها تستطعم جرعات من وليمة نومٍ كم اشتهته، و نالته أخيرًا بين دفء غطائه .
بعد بضعة ساعات استيقظت ، ووجهها مشرق بحمرة وجنتيها ، و شعرها الحريري منسدل علي وجهها ، رفعته و قد استدرجها الواقع إلي كامل وعيها ، عادت تسأل بوعي أكثر : – أين أنا ، فحكى لها عمر ما حدث .
تعددت الصدف حتى أصبحت لقاءات مع سبق الإصرار و الترصد ، و الجاني هو القلب ، لقاءات يومية مقدسة موثقة بختم قلبيهما ، وبوصلتيهما كانت تشيرا في آن واحد إلي محراب عشقهما بشاطئ عمر ، كان لقاءً يوحد روحيهما .
– كم أعشق هذا الشاطئ يا عمر .
– ليس شاطئًا عاديًا منذ أثراني بك البحر ، و أرسى بأثمن لؤلؤة ، فكان هذا اليوم يوم ميلادي .
– و يوم نجاتي
– بماذا كنت تشعرين ؟
– كنت أشعر بخوفٍ و بردٍ شديدين ، و كأني لم يحتويني الدفء عبر الأزمان ، كهاربةٍ من قصرٍ موحش ، نشلني من خوفي كوخك الصغير بقلبك الكبير ، حملتني يومها كالطفلة ، طفلة خائفة شريدة وحيدة اختبأت بك ، فهدأت رعشتها بحضن كوخك ، و شبعت بحنانك يا كل الأمان .
– طفلتي، أنت التي جعلتِ قلبي ينبض يا سر حياتي .
ظل العاشقان هائمين،يلبيان نداء الروح و القلب ، حتى جاء يومٌ بنشوة الجسد ، في هذا اليوم و لأول مرة غرقا سويا في بحر الحب ، هذه المرة أصابهما سحر البحر ولفهما بقبضته ، لم يتحملا اقتراب جسديهما وأنفاسهما لأول مرة ، و بعنفوان رجولته غادر البحر حاملها بين ذراعيه متجهًا بها إلي الشاليه ، أفاقت تلك المرة علي رائحة فراشه الذي دثرها وعرفها ببراءة الطفلة يأبي أن تدنسه رغبة أنوثتها ،وصرخت جدران الكوخ الذي سكنته روح طفلتها البريئة لا ،لا، لست خائنة ، فانهمرت دموعها و شعرت بخوف ،فشعر عمر بخوفها الذي لا يتحمله و سريعا انفصلا كجسدين وانضما كروحين ليلحقا بذنب لا يليق بطهارة روحهما ، و فجأة وجدت زوجها يقف أمامها يحدق بها ضاحكًا بشكل هستيري ، هي تنتفض وعيناها متسمرتان نحو المرآة ، ودموعها تنحدر سيولا ، تردد صارخةً :
-لست خائنة، لست خائنة أمسك عمر بيدها متجها نحو نظراتها المرعوبة
– ماذا بك حبيبتي .
– ها …هو .
– من هو.
– الخائن.
-اهدئي لا يوجد أحد غيرنا .
هدَّأ من روعها ، ثم اصطحبها إلي غرفتها ، و جلس بجوارها حتى نامت ،لفت نظره أجندة مذكراتها و بها رسالة أسيرة بظرف معنون ، صندوق البريد أحق بها من مذكراتها التي وجد بها إجابة حلت محل علامات الاستفهام ، التي كانت تحوم حولها و شغلت عمر ، لكنه كان مشغولاً أكثر بسعادتها معه ، و يخشى أن يذكرها بماضٍ يزعجها .
بعد أن عرف مأساتها من مذكراتها ، تمسك بها أكثر ، و قرر ألا يفترق عنها روحًا و جسدًا ، و بعد أسبوعٍ فوجئت بورقة طلاقها قد أرسلت لها .
تعجبت وهرولت إلي عمر ، فضحه بريق عينيه ، وسبقها لسانه يقرأ رسالةً من ذاكرته قد حفظها عن ظهر قلب .
” أرجو من ضميرك أن يقف بساحة الرحمة و أن يطلق سراحي ، قصرك قبرً أُدفن به حية ، ستحل علي لعنته إذا خطيت عتبته .
ثم أكمل قائﻻ:
– نعم أنا حررت رسالتك التي كتبتها أناملك و عكف خوفك عن إرسالها ، أرسلتها له نيابة عنك لأننا روح و إحساس واحد ، مكانك هنا ، كل أرجائه و كياني و روحي يناجوك ، أنا الذي سأدفن حيًا بدونك ، ليس عدلاً أن تدفنِّي بمقبرته ، و نفني منارة عشقنا التي لن تنير إلا بك .
انسابت دموعها بهدوء ، عمر يودع دموعها برفق.
أششش لا دموع بعد اليوم ، قليلاً من الصبر ، ثلاث شهور يا جوهرتي وستكونين بمكانك الصحيح .
انتهت توابع الأسى الذي زلزل حياتها ، و اختفي أثر شقوقه وانفجاراته بداخلها ، و تزوجت عمر و ولدت من جديد، عاشت حياة رغدة غامرة بالسعادة مع نصفها و مكمِّل روحها .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى