ط
مسابقة القصة القصيرة

ليلة حب..مسابقة القصة القصيرة بقلم/ بن عزيزة صبرينة – الجزائر

ليلة حب

بن عزيزة صبرينة – الجزائر – مجال المشاركة القصة القصيرة – بريد الكتروني [email protected]

    الواحدة بعد منتصف الأرق، محض عبث بات تأرجحي الفارغ بين اليمين و الشمال بحثا عن وضعية تحيلني للنوم بعد أن انهالت عليّ اللهفة و تملّص صبري من قبضة التّحكم، فللنعاس ترفّعا لا يشهره إلا و قد صرنا في مفترق الأحاسيس، يتحرش باحتمالي بطؤ ارتدى عقارب المنبِّه كما عن عمد فأبعث بصري يفتّش عن اليقين على شاشة هاتفي، فرق دقائق لا أكثر، هذا لا يكاد يغيِّر من الأمر شيئا فما يزال على موعدنا ساعتان كاملتان، أتخذ وضعية الجلوس فتقابلني النافذة، ما أجمل زخارف زجاجها حينما تتلبّسها أضواء القاهرة، هذه المدينة التي دون غيرها عانقت القداسة في خلوة مع التاريخ فصار سحرها بمهارة عاشقين يحترف تسلل النفوس المتعبة من الكتمان لينثر وجعها على حواف التلاشي

      يستمر تلألؤ النافذة في استفزاز فضولي فألتهم الخطوات إليها، أفك مقبضها و أفتح إحدى دفتيها لألقي بنظراتي خارجا فتتدلى أكاليل السّهر الأزلي و تحتضني نسمة هواء بارد تشفي غليل روحي من لهيب غيابك الذي أخذ يستفحل في أيامي منذ أزيد من شهر، لكن تعنِّفني الذكرى و يشوب نفسي طمع يدفعني لأشرِّع الثانية على مصرعي الممكن مغمضة شعوري عن كل ما حولي فيقتحمني صوتك ” صعب على القاهرة أن تنام، هي  فقط تستلقي في النيل لتمتهن حراسة العشاق” قلتها و أشحت بنظرك بعيدا، ربما خوفا من التلبّس بعشقها على مرأى رحيل ما كنت أعلم عنه شيئا ثم رحت تدندن  مقطعا من أغنية أم كلثوم ” ليلة حب ” قافزا بين السطور و مغيِّرا من الكلمات ما أتلفه شرود يكذِّب أنها كانت تفترش الحضور منذ برهة

ما تكفيش أشواقنا لبكرا

ما تكفيش فرحتنا لبكرا

      يُخَيِّلُ لي أحيانا أن بعض الأخطاء لا تخلو من القصد، فأيّ سهو هذا الذي يقذف أحلامنا  ويبتر عمرها ؟ أستذكر الأغنية فيخطو الإعجاب داخلي و يتمايل جسدي على وقع ألحانها بينما تملِّس الهواء أناملي، تبعثر الظلام خصلات شعري و ينطح خصري تفاصيل السكون بمشروع خطوات ترسمه ساقاي تارة إلى الأمام و أخرى إلى الخلف، من قال ليست كل الأغاني مخوّلة للرقص؟ وحدها مشاعرنا تحدِّد ذلك و يبقى على الأجساد أن تستجيب لما يملى عليها، أستسلم للنشوة فأتحرر من حركاتي المدروسة التي باتت كأنما تقيِّد روحي و أصدح في الهواء كطير مغرِّد ذات فجر جميل فيذوب الفضاء في حضن بوحي:

يا حبيبي ونبض قلبي و نور حياتو تيرارا

يا ابتسام ليلي في خيالو و ذكرياتو تيرارا

     أضيع بين الحروف فأمتزج بليلة الحب حد تقلّد نجمها الثاقب لكن كما جراء لعنة يرنّ المنبه  فيئد كل جميل، تمام الثانية، لم يتبقّ على الموعد غير ساعة واحدة و مازلت لم أجهز بعد، أهرول إلى خزانتي، أفتحها، أتصفح فساتيني كلها لكن ككل خميس أتوه بين الاختيارات الكثيرة و أستقر في الأخير على الأزرق السماوي ذي الورود البيضاء، ألبس طوق فضة تزينه كرات ملونة متباينة الحجم ستبدو على عنقي كأنها الكواكب تسبح في مدارات الكون، أبدد شحوب وجهي بمسحة ألوان قاتمة ثم أتعطر و أتسلل على أنامل الحذر، أطوي نصف السّلم تقريبا لكن أتذكر أني نسيت أوراقي فأعود

     ها نحن سوية، كما يجب أن نكون، أنا، الليل و القاهرة، تبدو الشوارع تحت الأضواء التي لا تكاد تنطفئ في ركن لتومض في آخر كراقصة باليه تحترف انتزاع الدهشة من عيون الناظرين، أو كفراشة ربيعية أخف بكثير من أن تُمْسَك ، يخطر ببالي أن أنحر المسافة بسيارة أجرة فأرفع يدي استعداد لتوقيف إحداها لكن سرعان ما أتراجع و أقرر الذهاب مشيا فلبعض المدن أسرارها التي لا تبوح بها لغير المتسكعين الذين يرشّون أرصفتها إنصاتا

      أخيرا سأراك، سألثم جبينك و شفتيك، أحرر قصائد شوق تلتحف سواد عينيك و أذبح الجفاء على سمرتك قربانا للوصال و خلاصا للعاشقين ثم نستسلم على بساط الرغبة لأقداح ثمالة يسكبها صوت الست في أسماعنا

تعـاال تعـاال تعـال، تعال حب الـعمـر كلو نخلصو حب اللـيـلة دي

تعاال تعاال تعال،تعال شوق العمر كلو نعيشو من القلب الليلة دي

      تهضم خطواتي مسافة ما بين الطول و القصر فيأتيني صوت النيل كعجز بيت شعر يُعْزَفُ شَطْرُهُ داخلي، يناديني أن أقبلي فأركض موسِّعة الخطى كما في طفولتي لألقي بحزني الثقيل في مياه امتزج تكوينها بطهر العذارى فصارت تنبع من عمق وجودنا لتصب في قاع الحياة

     ألج نفس المقهى الذي لطالما جمعتنا حدوده المتآمر لونها مع سحر الليل، أتصفحه في عجالة، طاولة وحيدة فارغة في أقصى اليمين، أتقدم إليها في انتظار أن تفرغ تلك التي شهدت يوما ميلاد حبنا، فوحدها تحفظ فصول قصة تحرّش بها الغياب، أجلس فيأتيني النادل و قد انتعل ابتسامة عرضها قائمة طلبات غير أني ككل مرة أكتفي بفنجاني قهوة، إحداهما سادة و الثانية مضبوطة على مقاس رغبتك كما كنت تفضلها دوما

     الثالثة إلا دقائق متلاشية في الانتظار، تنفض طاولتنا حضور عاشقين لن يكونا يوما بصدقنا فأهرول إليها حاملة بإحدى يديّ بياض أوراقي رفقة أقلام حالك سوادها تماما كليلة رحيلك و بالأخرى قهوتك التي ارتوت وحدة و إهمالا بعدما أَفْرَغْتُ رفيقتها في جوفي مفلتتة بعض القطرات

     غيّر المقهى كل زبائنه تقريبا إلا زوجين مسنين يطعنان الحياة بهمسات تتخللها ابتسامات شبه حافية، امرأة لا تنفك تطلب الشاي تلو الآخر كما لتأبين خيبة، و شاب يشطفني بصره كلما نفثت شفتاه دخان أرجيلته، تحاصرني نظراته الحبلى بالشك فأغيِّر مقعدي و أقابل الباب عساني أعثر عليك في وجوه الداخلين

     الثالثة و النصف و لم تصل بعد، جمدت لغتي و ما عاد ما يعبر عني غير صوت أم كلثوم

يلي عمرك ما خلفت معــاااد في عمـرك

الليلة دي غبت ليه، ليييه حيرني أمرك

     يخطر ببالي أني لو انتظرك خارجا قد أضبطك متلبِّسا بالمجيء، حاملا باقات أعذار صدقتها سلفا فأقوم لاحتضان المغادرة، أتلفت يمينا ثم أصد شمالا لكن لا شيء على مد النظر يشي بقدومك، أتقدم للأمام فيسقط بصري على نور القمر و هو يتموج على وجه النيل فتعلو أجزاء منه بينما تنخفض أخرى، تسلبني صورته التي باتت تشبه نوتات بيانو تحت وقع الاحتراف لكن يباغت انتباهي تمرّد قطرات ماء بارد فألتفت مسرعة لأدرك أنها أفلتت من  طفل يلاعب والده، يأسرني جماله و يسحبني إلى ماض كنت فيه بعمره أحوم حول تمني أن يتخذني النيل عروسا أنا الأخرى، يلمح والده قتامة تحديقي فيسترسل في الاعتذار،أبسط له كفي أن لا بأس  ثم أستدير إلى عشاق تذرف قلوبهم حبا سيصير مع الفجر صلوات مباركة يطوف عليهم صبي بورد أحمر لونه يسرّ العاشقين و مصور يوزع بعينه الثالثة خلودا للحظات قطعا لن تعود مدّخرا النصيب الأوفر لسياح أتوا من بعيد لتعميد أيامهم بمياه لا تحمل لون الغرق، وحدي أجالس الغياب، أول مرة يتضح لي أن في الجمال ما يضاعف الألم  و أن بعض الفوضى  تسند الصمت الرهيب داخلنا

     أعود إلى المقهى تجنبا لهواء أخذ يعبث بفستاني الجميل و خصلات شعري، أدخل فتفتك نظري طاولتي التي استباحها بياض أوراق كنت لليال طوال أنفثك بين سطورها و أقلام كلما نزفت حبرا سبكت فيها ذاتي حتى لا تمتد إليك  يد النسيان يوما

     تمام الرابعة و لم تأت، تأخرك يجزم أنك لن تفعل، فما كنت يوما ممن يتأرجحون بين الأضداد، ينكمش التفاؤل داخلي و يخفت الأمل فجأة رغم هذا أفسح الوجود لبعض الشك رحمة بشوق ما عاد يطيق التأجيل لخميس قادم، تكتسحني أكوام خيبة، تطيح بوجهي بين كفيّ فأغرق في ظلام بات يلفّني و لا ينتشلني إلا  الشعور بطيف ما يربت على كتفي، ألتفت وقد بدا علي الفزع فأجده معطفا تنزله أمي برفق على ظهري، كسكينة ذات ليلة قهر، أقوم بعد أن أمسكت طرفيه بكلتي يديّ فألمح في عينيها بقايا دمع عصي على الإخفاء، دمع بات هو الآخر يؤثث رحيلك، تئد دهشتي على صدرها ثم تمسك بيدي لتقودني في طريق أحفظه، نتقدم بخطوات ثابتة و لا نتوقف إلا  وقد صرنا أمام النادل، تناوله أمي ثمن  قهوة حبلى بنكهة الغياب لكن يعيده إليها محركا رأسه بالنفي و ضاغطا على شفتين ذابتا في الأسف، ألمح انعكاس صورتي في الباب الزجاجي فأنتبه إلى قتامة أحمر شفاهي، أمسحه بعد أن حررت شعري للهواء ثم أواصل طريقي و كلي تفاؤل بالخميس القادم …

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى