ط
مسابقة القصة القصيرة

مانوليا ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / غلال إلهام من الجزائر

مانـــــوليـــا
” قصة قصيرة ”
غلال الهام
الجزائر
رقم الهاتف 0699102498
ليس سهلا في زمن القبح
أن أجمع أزهار المانوليا
والفراشات التي تخرج ليلا من شبابيك العيون الماطرة
نزار قباني
أحيانا نظن أن كل ما في حياتنا يحتاج الى تفسير، أننا نحتاج لسبب مقنع لنكون سعداء، أننا نحتاج أن نفسر للعالم عفويتنا، أن نقدم تقريرا مفصلا لكل الناس الذين لم ولن يكونوا في حياتنا سوى مارة تلاقت أعيننا صدفة بأعينهم في شارع بلا عنوان…
نبذل الكثير من الجهد في هذا العالم، نحاول أن نعيش الحياة وننحني في كل الممرات، لكن مع مرور الأيام نجد أننا فقدنا الكثير من أرواحنا، أن الحياة عاشتنا بدل أن نعيشها…
نحاول أن نلتفت الى الوراء للبحث عن بقايا من أنفسنا ومن أحلامنا، الا أننا نكتشف أن كل الأحلام تغيرت، نجد البعض منها موضوع على رفوف النسيان والباقي مسجون في سراديب الماضي…
ربما نعتقد أن الحياة لم تنصفنا يوما، نعتقد أننا مجرد أرواح مبعثرة تعبثُ بنا الذكريات، تستعبدنا المواقف، تستفزنا التساؤلات، تلعب بقلوبنا وعقولنا.
-مانوليا …
مانوليا عزيزتي لقد حان الوقت الكل ينتظر أن تصعدي على منصة التكريم.
-كانت ” عرين ” تصرخ بأعلى صوت وتنادي بإسمي لدرجة أحسست فيها أن كل الأصوات صمتت لتخضع لسنفونية الفرح بين أحرفها، ربما كانت تنتظر هذا اليوم مثلي ان لم يكن أكثر، ربما لأنها كتبت معي تاريخي، أو أنها الشاهدة الوحيدة على امرأة تمكنت من أن تكسر القيود التي كانت تقيدها بمجتمع يستهزئ من امرأة لا جدور لها استطاعت أن تنبث وتزهر وتمد جدورها بكل حرية.
لم أنتبه لكم من الوقت استمرت “عرين” بالمناداة، أحسست في تلك اللحظة أني رجعت الى ثلاثة وعشرين سنة الى الوراء، حيث تركت طفلة ذات السنتين على باب الميتم، لا أملك من الدنيا الكثير سوى شالٍ صوفي أبيض اللون منقوش عليه بعض الورود، وتلك الرائحة التي أشعر أنها لا تفارقني الى حد الآن، كأنها التصقت بجلدي ودخلت خلايا جسمي وتربعت على عرش ذاكرتي، رائحة كأنها من الجنة…
لا أعلم ما كان اسمي في تلك السنتين، أو ربما تركت بلا اسم، كما تركت بلا عائلة، الى أن احدى المربيات أطلقت عليا اسم “مانوليا”، لا أعلم ما الذي كانت تفكر فيه آن ذاك.
مانوليا زهرة نزار قباني، أسطورة في الغزل والحب، زهرة ناصعة البياض نقية، اسمها يعني حب الذات والنفس أو ربما تخاف على نفسها من كل ما يحيطها.
لي قناعة لا أستغني عنها، أننا نرتبط ارتباطا وثيقا باسمنا، نتقمص صفاته ونصبح جزءا منه…أو كله.
-فتيات الميتم كُن يشعرن بالعديد من الأحاسيس المبعثرة التي تحتاج أن ترمى على الأرض ويُعاد ترتيبها مجددا، لم تكن سنوات الميتم هي السبب، ولم تكن الجذران المملوءة بالذكيرات والتي تحمل العديد من الحكايات التي شهدتنا
والكثير من القصص والأسرار التي سمعتها، ولم تكن الصعوبة في نومنا على فراشٍ تقاسم طفولة مشردة العواطف، تحمل الوسائد بحرا من الدموع وقبيلة من الأحزان، ولا في العيون التي تركت علامة استفهام لم تجد قصة لترويها ولا ماض …ربما لأن القصة لم تكتمل بعد أو أنها لم تبدأ يوما، فكيف تروي أعيننا قصة لا بداية لها وتعلم أن النهاية لن تكتمل يوما؟
بل كان ذلك بسبب شعورهن بأن شيئا ما ينقصهن، بأن حياتهن لسبب أو لآخر لا تزال على قائمة الانتظار.
كل فتيات الميتم كُنَ يَرَيْنَ أنهن يكبرن في العام ثلاث أو أربع سنوات يرين تجاعيد لا وجود لها تتوسط وجها ملائكيا، كُنَ يعرفن أن الطريق الى الحياة التي سوف يوجهنها لن تكون يوما سهلة، الى درجة أن بعض الفتيات كن يستقلن من الحياة عندما يستسلمن لثرثارات مجتمع يصنف الناس بغير قانون أو مبدأ…من أعطاهم الحق؟
كان كل من في الميتم يعلم أني متمردة، فتاة يصعب السيطرة عليها، تدخل في موجة من التحرر، تطلق العفوية لطفولتها ولسذاجتها لتسيطر عليها، كنت بين الحين والأخر أهرب من الميتم الى الحديقة التي تجاورنا، ببساطة كنت لا أفعل شيء سوى أني ألقي نفسي على الأرض وأترك نفسي لكل ذلك الهدوء، لصمت الليل، وحكايات القمر، وأنين النجوم.
تشعرني عتمة الليل هناك بالراحة، أظن أنه المكان الوحيد، والوقت الوحيد الذي جعلني حينذاك أشعر أني حرة، أني أمتلك الحق في حياتي، أني سأكون يوما ما بخير، كنت أتفادى كل تلك الأسئلة الكلاسيكية التي تسألها بنات الميتم …
كنت أحيانا أنام هناك لبضع ساعات بدون خوف أو تفكير، ألقي بكل تلك الهموم على الأرض، كانت غفوتي هناك تختلف عن غفوتي بالميتم، أحلام مختلفة لا تشبه تلك الكوابيس، كنت أنام بدون سقف أخاف أن يسقط علي من شدة تقله من الهموم التي تحملها فتيات الميتم، وبذون تلك الوسادة التي كلما وضعت رأسي عليها أحس أني سأغرق ببحر من الدموع التي تركت لتعزز ألم كل تلك القلوب، أنام بدون جدار يستمع لدقات قلبي ويسجنها…
-اتخذت القرار مبكرا أن أصبح يوما امرأة تسير بخطوات من ثقة، عيناها تحكيان الكثير، أن أكون قدوة للبعض، وأملا للبعض الأخر، ألا أكون ربع طفلة ونصف امرأة ومجرد اسم في الدفتر العائلي، ألا أجعل قضيتي يوما رجل، فهو ليس خصما لي بل ربما يكون يوما كل الحياة، فالعلاقة بين الرجل والمرأة ليست حربا باردة بل احتلال دافئ نعشق تفاصيله.
كنت أحترق شوقا لأخرج من الميتم، لأسير نحو طريقي الخاص، لأن أبني مستقبلي، أن تكون لي حياة أنا أٌسَيِرُها وأملك السلطة في اتخاد جميع القرارات، أن يكون لي عنوان آخر، ألا يكتب على رسائلي عنوان الميتم، أن أجرب كل ما هو غير اعتيادي.
بلغت التاسعة عشرة عندما قررت أنا وعرين أن نبحث عن بيت لنا، أن نبدأ المشوار معا، أظن أن الوقت قد حان لنجرب حظنا، نعم كنا نعلم أن الأمر لن يكون يوما سهلا نعلم أننا سنواجه الكثير، ربما نسقط أحيانا، ربما نختبأ من هذا العالم وأعين الناس في غرفة مظلمة تتوسطها شمعة واحدة وكل زاوية من زوايا الغرفة تشدنا الى طريق مجهول، كنت قد بدأت الدراسة بالجامعة، تخصص المحاماة لتكون أكبر قضية لي هي الحياة، وكنت في نفس الوقت عاملة في احدى المكتبات التي تبيع الكتب والروايات القديمة ذات الصفحات الصفراء والرائحة العتيقة التي تحكي العديد من القصص والروايات المختلفة.
اتفقت وعرين أن نجمع النقود التي اذخرتها هي من بيعها لبعض اللوحات التي كانت ترسمها وتبيها على أرصفة الطرقات، والنقود التي إذخرتها أنا من عملي في المكتبة، لم يكن ايجادنا لشقة عملا سهلا، وخاصة أننا مجرد فتاتين لا تحملان في جعبتهما سوى بعض المبادئ التي تريدان ان تحافظان عليها ولكن المجتمع يبحث عن سبب لنهشهما.
أخيرا وبعض طول عناء وجدنا شقة من غرفتين في احدى العمارات القديمة التي تآكلت جدرانها وأصبحت هشة لا تحتاج الى تصليح بقدر ما تحتاج الى هدم وإعادة بناء
لم يتبقى لي الكثير على انهاء جامعتي كنت في الأشهر الاخيرة وأكسب لقب المحامية، لقب سيسحبني من العالم الصغير الذي أعيشه، قرارات مختلفة، أسلوب حياة مختلف، راتب لا بأس به، مكانة محترمة …كل تلك الأمور يمكن لي أكسبها من عملي، لكن لماذا أحس بهذا الشعور؟
أني غريبة عن نفسي …؟، بأني لست أنا؟، بأني لا يمكن أن أتوقف عند هذا الحد.
انقضت سنة أكملت فيها دراستي وحصلت على عمل، تحسنت ظروفي أنا وعرين وانتقلنا الى شقة أفضل.
عملي كمحامية جعلني أنسى الكثير مما عشته في حياتي، لو نعلم، لو فقط نقتنع أن لا حياة كاملة، وأنه مهما اختلفت المشاكل لايزال الألم واحد، وأننا وان لم نرضى نحن بحياتنا فهناك الكثير يريد أن يحظى بالقليل منها …
لو كانت الحياة تسلب أو تسرق …هل كنا سنسرق حياة البعض؟، هل كنا لنحظى بحياة أخرى، وحضن أخر، وبيت وعنوان أخر …
هل هروبنا كان ليغير الكثير؟، أم أننا بمجرد وقوعنا في مشكلة أخرى سنهرع الى غرفنا نغلق الباب على أنفسنا ونضع أرواحنا قيد الانتظار ونفكر من جديد…هل يمكن أن نهرب …مرة أخرى؟
كَوني امرأة روضت الواقع، ولا تخاف أن تطلق على نفسها لقب ” امرأة من فلاذ “رأت الكثير وتحملت الكثير واستطاعت أن تخرج من مستنقع المجتمع بروح كاملة جعلني أتعاطف مع قضايا المرأة.
أغلب تلك القضايا التي تأتي الى مكتب المحاماة تخص المرأة بشكل كبير، ربما العديد من النساء يلجأن الى القانون لأنهن يعلمن أنه لا يمكن لهن أن يقمن ببعض الأمور لوحدهن، وأن المجتمع وان وصل به من تطور لا يمكن له أن ينصف امرأة، من هنا جاءتني فكرة أن أكتب روايتي “امرأة من فولاذ” لا أعلم كيف وصلت الى هذا القرار لكني صممت أن أكتبه ولو بحبر من ذمي، ترسخت الفكرة في داخلي واتخذت مكانها بين أفكاري، أحسست أنه الجزء الذي ينقسني والذي يجب عليَ اكماله.
“امرأة من فولاذ”، يشبهني هذا اللقب الى حد كبير، من هنا قررت أن أكتب تجاربي مع الحياة، أن أسرد تفاصيل حياتي لغيري من النساء لعلهن يستفدن ويتخذن قرارا كان بالنسبة لهن موضوع على حافة النسيان منذ زمن، لتجرب كل امرأة أن تتحدى نفسها، عندها ستدرك أن لها القدرة على العزف على البيانو وكتابة قصيدة وتعلم لغتين، وأن تقوم بثورة على الشكوك والظنون وأن تغلق الباب في وجه اليأس، تجرب أن تتحدى نفسها عندها ستدرك قدرتها على تحويل الألوان الكلاسيكية الى لوحة تعرض في معرض للتحف عنوانه ولادة أنثى.
امرأة من فولاذ، امرأة تربت ونشأت في الميتم تغلبت على كل المواقف التي صادفتها، عاشت بالقرب من الحياة مرة، وأقست أن تغوص فيها أن تدخل الحياة بخطى من ثقة أن تسير وتجري وتتعثر لتقع وتقف من جديد.
-توجهت الى منصة التكريم، وضعت خطابي أمامي، نظرت اليه ثم نظرت الى أعين الحاضرين، وأكاد أقسم أني قرأت أعين الكل كلمة كلمة، وحرفا بحرف، الى أن التقت عيني بشخص لم أستطع أن أتجاهله بنفس القدر الذي لم أستطع أن أبتعد عن النظر اليه، لم أستطع أن أقرأه … حاولت. حاولت…حاولت …بذون جدوى كلما حاولت أن أقرئه وجدته يقرئني.
هنا وفي هذه اللحظة اكتشفت بأني …وحيدة، نعم وحيدة، بغض النظر الى النجاح الذي وصلت اليه الى أني وحيدة لا أملك عينين أتوه فيهما، لم أعرف السبيل الى الحب يوما، لم أصادفه، لا أملك حق البكاء على كتف شخص آخر، لم يسبق ليد أن ُمدت ومسحت دموعي لم أرقص على قطرات المطر، لم أجرب نار الغيرة ولا الاشتياق، لم تصادفني رائحة الياسمين ولم أغني يوما أغنية حب، لم أعش يوما كل تلك الحكايات …
في هاته اللحظة وبدون وعي مزقت ورقة خطابي أمام الجميع، أو أن الوعي بداخلي، والانسانة التي خبأتُها عن أعين الكل وتناسيتها منذ زمن قررت فجأة أن تثور علىَ بكلمات لم تعترف بها من قبل…
بأن كل انسان يأتي للحياة لسبب ما، للكل دور فيها صغُر أم كبُر…كنت أعتقد كامرأة مهدت الطريق لنفسها لتصبح ما عليها الآن، لأصبح امرأة من فولاذ، امرأة ترمي نفسها الى زوبعة من المستحيل لتروضها وتصبح واقعا لما تريد، كنت أعتقد أن دوري يكمن في أن أكون قدوة لغيري من النساء، في أن أبني أحلامي على حساب الانثى بداخلي…
في سنواتي الأولى بالميتم كنت أفتخر باسم “المانوليا”، اسم فريد من نوعه، يحمل كل معايير الأنوثة، الجمال، العفوية، الحياة …
يحمل كل الصفات التي تتمنى أي امرأة أن تحصل عليها، ماعدا الوحدة، لكن مع الوقت دفنت المانوليا بداخلي، لأصبح امرأة أخرى، تعتقد أنه من القوة ألا تبكي أمام الناس وأمام من تحب لأنه ضعف، ونسيت أن الاعتراف بالضعف هو القوة، امرأة من فولاذ تعتقد أنه بمجرد أن تصبح لها مكانة في مجتمع أخرس سيتغاضى الكل عن كونها وحيدة …
كتبت روايتي الأولى لأنصح النساء بأن يخفين ضعفهن، ولا يتركن أنفسهن للصواعق والفيضانات والبراكين، وألا يستسلمن لأحاديث القمر الزائفة، ونسيت أو ربما تناسيت، لا بل بالفعل تناسيت أني من كنت أهرب ليلا من الميتم لأنصت لأحاديث القمر …كانت تشعرني عفويتي بالسعادة…
لأكتشف أني لا أزال هناك بين المرايا، كلما نظرت لنفسي أجد طيفي يتربع على مقربة من قلبي
لا أزال هناك بين أحلامي …بين رقصات المطر وقطرات الندى…لا أزال هناك بين الذكريات.
ربما هنا أقول لكم أن تسحبوا ورقة وقلم لتكتبوا نهاية روايتي كلٌ حسب رغبته، أما عني أنا فأريد أن أرمي بكعبي العالي وأن أنزع ذلك الوجه الذي ارتديته لسنوات وأعود مرة أخرى الى الحديقة التي تجاور الميتم لأكون المانوليا من جديد، فليعتبره البعض ضعفا مني ان أراد لكن بالنسبة لي نجاح المرأة يكمن في اختيارها لما تريد، في تلك الكلمات التي تخرج بذون موعد مع الحياة، في ارتكابها للحماقات، في رجوعها للطفلة التي ضاعت منذ زمن وان أراد أحدكم أن يرسل رسالة عمل فليرسلها الى المنفى، أما عن رسائل الحب فأخبروها أني تائهة في بحر ذلك الغريب بذون زورق ولا خريطة ولا أحمل في يدي قطعة خشب من كوخ الماضي…
سلامي الى امرأة عرفت الطريق الى الحياة….
سلامي الى المانوليا.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى