الاسم: محمود خالد عبد الجواد
الدولة: مصر
رقم المحمول: 01004907933
حساب الفيسبوك: https://facebook.com/mahmoud.qudsy
نوع المشاركة: قصة قصيرة
عنوان القصة: محاكمة شيطان
======================
أَيُّهَا الخَائِن! لَقَد نَقَضْتَ عَهْدَ الأَبَالِسَة.. مَا جَرُؤَ شَيطَانٌ على مُخَالَفَةِ إِبلِيس أَبَدَ الدَّهر.. أَمَا أنتَ وَقَد فَعَلْتَ وَخَرَجْتَ عَن طَوعِي.. أَرجُوك يا مَولَاي لا تَظلِمْنِي واستَمِعْ لقِصَّتِي كَامِلَةً.. احْكِ!
“فِي أَحَد أَحيَاءِ القَاهِرَة. النَّائِيَةِ الرَّاقِيَة. أَثَارَتْنِي حَيَاةٌ هَانِئَةٌ. مِثَالِيّة؛ شَابٌ وَفَتَاةٌ تَزَوّجَا فِي العِشرِين، يَعمَلَان طَوَالَ الأسبُوع، يَهوَيَان الرّمَايَةَ أيّامَ الجُمُعَة، وَيَزُورَان أَهلَهَا فِي السّبت. ازدَانَتْ حَدِيقَتُهُما بِطِفلٍ قَطَفَ زَهرَتَه الثالِثَة بَين أَشجَارِ التّوت، تُدَاعِبُه نَسَمَاتٌ هَادِئة، تَشُوبُهَا حينًا غِيرَةٌ عَاتِيَة تَهُبّ مِن دَاخِل الفِيلّا الفَاخِرَة.
أَدرَكْتُ أَنَّ بَقَائِي مَارِدًا لَن يُجدِيَ مَعَهُمَا نَفعًا، طَلبْتُ أَن أُحَالَ إِنسِيًّا. أَشقَر. سَلَكْتُ طَرِيقَ الأصدِقَاء إلى الشَّاب؛ سَخِرُوا من زَوَاجِه مُبَكِّرًا، وأَقنَعُوه بِلَيلَةٍ يَستَعِيدُ فيها حُريَّتَه المَسلُوبَة، فِي صَالَةِ المُتعَةِ والحَظّ، حَيث تَتَعَالَى ضَحِكَاتُ فَتَيَاتِي، وَيَغرَقُ أَصحَابُ البُطُونِ المُتَدَلّيَة والسُّترَاتِ السّودَاء فِي كُؤُوسِهِم.
اقتَحَمْتُ طَاوِلَتَه، وَتَعَرَّفْتُ عَلَيْه. غَمَزْتُ لفَتَاةٍ شَّقرَاء تَرتَدِي فٌستَانًا أَسوَد عِندَ آخِرِ الصَّالَة.. اقتَرَبَتْ مِنه، وبِانحِنَاءَةٍ هَادِئَة التَقَطَتْ كَأسًا من طَاوِلَتِه. رَمَتْه بِنَظرَةٍ حَارَة أَذَابَتْ عَوَاطِفَه. نَفَثَتْ دُخَانَ سِيجَارَتِهَا في عَينَيه، تَلَاشَتْ مَعَهَا صُورَةُ زَوجَتِه وابنِه، وألقَتْ الطُّعمَ بِكَلِمَة.. “ميرسي”.
تَابَعَهَا بِعَينَيه حتى وَقَفَتْ بَعِيدًا. سَأَلَنِي عَنهَا، أّخبَرْتُه أنَّهَا شَقِيقَتِي، زَبُونَةٌ دَائِمَة فِي هَذِه الصَّالَة، رَأَيْتُ نَظرَةً حَائِرَة بَينَ الخَجَل والاشمِئزَاز.. والتسَاؤل؛ أجَبْتُ “لا أَتَدَخّلُ في حُريَّتِهَا، هَكَذَا تَرَبّينَا فِي الخَارِج”.
هَمَّ بالرّحِيل. أَلقَى نَظرَةً إليهَا، التَفَتَتْ إِلَيه وَوَدَّعَتْه بِغَمزَةٍ سَاحِرَةٍ، وَوَدَّعْتُه بابتِسَامَةٍ سَاخٍرَة..
سَكَنَتْ مُخَيّلَتَه عُنوَةَ، يَرسُمُ صُورَتَها فِي الفَرَاغ؛ شَعرَهَا الأَشقَر.. عَينَيهَا العَسَلِيَّتَين الوَاسِعَتَين.. أَنفَهَا الدَّقِيق.. شَفَتَيهَا المُكتَنِزَتَين.. يَسرَحُ فيها نَهَارًا، ويَسبَحُ فيها لَيلًا.
تَكَرَرَتْ زِيَارَاتُه للصَّالَة؛ يَجلِسُ عِندَ ذَاتِ الطَّاوِلَة، يَشرَبُ كَأسًا ويَترُكُ أُخرَى، يَبحَثُ بِنَظَرَاتِه عَنهَا؛ عَلَّهَا تَلتَقِطُ كَأسَهَا.
مَنَّعْتُهًا عَنه أَيامًا. اشتَاقَ لِرُؤيَتِها؛ صورَتُها في مُخَيّلَتِه لم تَعُد تُروِي ظَمَأَهُ إليها. كان يَتَشَاجَرُ مع زَوجَتِه، ثم يَنزَوِي في غُرفَتِه ويُطلِقُ بُكَاءً مَرِيرًا، كَطِفلٍ تَائِه في طَرِيقٍ مُظلِم… كَانَت رُؤيَتُهَا مَرّةً كَفِيلَةً بِأَن يَجرِيَ نَحوَهَا لاهِثًا مُتَلَهّفًا، ويَعتَرِفَ بِحُبّه لَهَا.. وَيَرقُصَ قَلبُه طَرَبًا لَمَّا سَقَتْه. وَسَاقَتْه. مِمّا في قَلْبِهَا مِن عِشق.
جَاءَ السّبتُ.. أّخبَرَ زَوجَتَه أنّه يَحتَاجُ لإِنهَاءِ أَورَاقٍ مُهِمَّة.. ذَهَبَتْ بِالطّفلِ لِأَهلِهَا، تَرَكَتْه وَحِيدًا، يَنتَظِرُ مَن تُؤنِسُه. زَارَتْه الشقرَاء، و… مُنذ ذَلِك اليَوم لَم تَنقَطِع زِيَارَاتُهَا.
تَرَكْتُ أَقرَانِي المَرَدَةَ يَهمِزُون زَوجَتَه.. “تَكَرَّرَتْ أَعذَارُه، صَارَتْ وَاهِيَة. لِمَاذَا يَمكُثُ فِي الفِيلّا كلّ سَبت؟”، زَحَفَ الشكُّ حَتّى غَزَا عَقلَهَا؛ أَخبَرَتْه أنّهَا سَتَزُورُ أَهلَهَا، عَادَتْ بِطِفلِهَا في مُنتَصَفِ النّهَار، وَجَدَتْ الشقرَاءَ بِجَانِبه عَلى اَرِيكةِ الصّالَة.
سَأَلَتْه مَن هَذِه؟ لَم يَرُد. اشتَعَلَ الشِّجَار. وَقَفْتُ مِن بَعِيد مُتَلَذّذًا، أَتَرَقّبُ كَلَمَةَ الطّلَاق، حَتى رَأَيْتُ الطّفلَ يَقِفُ مُرتَجِفًا، وسُحُبُ عَينَيه تُنذِرُ بِهُطُول سَيلٍ مِن الدّمُوع.
طَرَقْتُ البَابَ وَدَخَلْتُ مُرتديًا ثَوبَ الهَلَع. عَانَقْتُ فَتَاتِي وَكَفكَفْتُ دُمُوعَهَا أَمَامَ أَعيُنَهُم المَشدُوهَة. أَخبَرْتُ زَوجَتَه أّنَّ شَقِيقَتِي آ… زَمِيلَةُ زَوجِهَا في العَمَل، وَ… وَأَنَا صَدِيقُه الحَمِيم، وَ… تَرَكْتُهَا مَعَه كَي يُنهِيَا مَلَفّاتٍ عَاجِلَة، وذَهَبْتُ لِأَشتَرِيَ عُلبَةَ سَجَائِر. عَاتَبْتُه عَلَى مُعَامَلَةِ الضّيُوف بِسُوءٍ، وَأَخَذْتُهَا وَرَحَلْنَا.”
– لِـــــمَاذَا؟
– أَرجُوك لا تَستَشِط غَضَبًا أو تَحرِقْنِي بِنَارِك.. أَنقَذْتُه بِسَبَبِ الطّفل.
– أَرَقَّ قَلبُك وصِرتَ مِن بَنِي آَدَم؟ أَلَيس هَؤُلاء أَعدَاءَنا الذين نَهَبُوا الأَرضَ وَتَرَكُونَا هُنَا في قَاعِهَا؟
– سَيّدِي. قُلتُ لَكَ (بِسَبَب) لا (مِن أَجل).
– مَاذَا تَقصِد؟
– سَأُخبِرُك..
“لمّا رَأَيْتُ الطّفلَ، تَدَخّلْتُ لأُنقِذَ الزّوج، لَكِن تَعَمَّدتُ التّلَعثُمَ أَمَامَ زَوجَتِه.
جَاءَنِي صَالَة المُتعَة وَاعتَذَرَ لِي، أَخبَرْتُه أَنّه حُرّ فِي عِلاقَتِه بِهَا، واقتَرَحْتُ عَلَيه أَن يُغَيّرَ الدفَّة، مِن فيلّته إلى بَيتٍ، تُقِيمُ فِيه مَع حَسنَاوَاتٍ، مِن كُل صِنفٍ وَلَون.. استَنكَرَ وَرَفَض. تَعَهّدَ أَن يَعُودَ لِزَوجَتِه وطِفلِه، وسُرعَانَ مَا عَادَ بِالفِعل.. إلى فَتَاتِي.
زَوجَتُه لا تَمَلُّ السّؤَال.. أَينَ تَذهَب؟ مِن أَينَ أَتَيْت؟ مَعَ مَن كُنت؟ مَن هَذِه؟.. يَرُد وَلَا تُصَدّق، يُقْسِمُ وَلَا تَأْمَن؛ يَتعَالَى التّرَاشُقُ بِالأَلفَاظ، يشتَدّ صَلِيلُ الأَيدِي. يَصفَعُ البَابَ وَرَاءَه بِلَا رَغبَةٍ فِي العَودَة، تَهدَأُ سَرِيرَتُه فَوقَ سَريرِ فَتَاتِي، ثُمّ يَعُودُ ويَنَامُ جِوارَ زَوجَتِه، وَصُورَةُ الشّقرَاء تَتَرَاقَصُ أَمَامَ عَينَيه، ثُمّ تَتَلَاشَى وَيَبتَلِعُها الظّلَام.
ذَاتَ يَومٍ تَشَاجَرَا. اضطَرَمَ صُراخُهَا، أخمَدَه بِصَفعَةٍ عَلَى وَجهِهَا، تَرَكَهَا دَامِعَةً وَرَحَل. رَنّ هَاتِفُهَا، وَضَعَتْه عَلَى أُذُنِهَا.. اكفَهَرّ وَجهُهَا. التَقَطَتْ مُسَدّسَهَا، وانطَلَقَتْ إِلَى بَيتِ الحَسنَاوَات. رَأَتْه بِجِوَارِهَا فِي الفِرَاش. أَسكَنَتْ رَصَاصَةً فِي جَسَدِه. صَعَدَتْ رُوحُه وَهَطَلَتْ دُمُوعُهَا.”
– وَلِمَ لَمْ تَجعَلْ أُمَّه هِي الخَائِنَة؟
– لَو قَتَلَهَا لَتَبَرّأ مِن عَارِهَا، أمّا هِيَ فَصَارَتْ مُجرِمَة؛ سَتَحرِمُهَا القُضبَانُ مِن طِفلِهَا، وَيُصبِحَ مَذمُومًا مَطرُودًا مِن رَحْمَةِ النّاس، يَلعَنُ قَدَرَه الذِي نَسَبَه لأبٍ خَائِن وأُم قَاتِلَة. سَأُجَنِّدُه عِندَمَا يَشُبُّ وَأَشِيبُ، وأُغوي بِه مَنْ أَشَاء.
تَهَلَّلَتْ أَسَارِيرُ إبليس. أَمَرَ بِفَكّ قُيُودِ الأشقَر، عَانَقَه بِقُوّة وأَجَلَسَه جَانِبَه، وَجَعَلَه مِن المُقَرّبِين.
ضَحِكَ الأشقَر، ثُمّ سَكَتّ.. قَال هَامِسًا: “كَم أَنت مُنعَمٌ أيّها الإنسَان! نَبحَثُ. لَيلًا وَنَهَارًا. كَيف نُغوِيك.. نَنتَظِرُ لّحظّة؛ تَغضَبُ.. تَطِيشُ.. تَتْبَعُ هَوَاك وَتُخُورُ قُوَاك. نُوقِدُ نَارًا صَغِيرَةً دَاخِلَك، نُزِيدُها وَنُزِيدُها، حَتى تَستَعِرَ نَفسُك، وَتَصِيرَ خَادِمًا لإِبلِيس.. وَلَو عُدْتَ لَسَقَطَتْ خَطَايَاكَ كَأوراقِ الخَرِيف.
سَتَظَلّ حَربُنَا عَلَيكَ وَفِيك. أَنتَ الخِصمُ وَسَاحَةُ المَعرَكَة. نَجذِبُكَ فَتَعُود، فَنُعِيدك، فَتَعُود، حَتّى تَسقُطَ وَرَقَةُ عُمُرِك؛ فَإِمّا أَن نَفرَحَ بِعَودَتِكَ لَنَا، أَو نَحزَنَ بِعَودَتِكَ عَنّا.
آه.. لَيتَنَا نَملِكُ نَحنُ فُرصَةَ العَودَة!