– لحد الساعة لا أدري ماذا أضفت الى حياتك من متابعتك المستمرة لنشرات الإخبار التي تشاهدها منذ سنوات ؟
هذا ما سمعه من زوجته و هي تحاول إقناعه بتغيير القناة لكي تتمكن من مشاهدة مسلسلها المفضل .
لم يقدم لها أي إجابة و تركها تتابع عوالمها النسائية و غادر المكان ، أول مرة يرضخ لها بدون مقاومة فقد سطعت في ذهنه فكرتان الأولى تتعلق بالسنوات الطويلة التي كان يجلس فيها أمام التلفاز بكل إهتمام ليتابع تطورات الأحداث هنا و هناك ، و الفكرة الثانية تتعلق بتحديد طبيعة المنافع التي تحصل عليها .
جلس في مقهى الحي مع صديقه الصحفي المميز و إستعرض معه وضعه الشخصي و طموحاته الجديدة.
– تفضل لما طلبتني في هذا الوقت ؟ و ماهو الأمر المستعجل ؟
– بدون مقدمات أريد ان اكون محلل سياسي يظهر على الفضائيات و يقدم وجهات نظره و أفكاره و آراءه حول كل ما يقع هنا أو هناك .
تأمله الصحفي بكل ذهول مبتسما ، إرتشف كوب الشاي و إقترب منه قليلا قائلا :
– فعلا من خلال نقاشاتنا السياسية هنا أشعر فعلا انك تمتلك قدرات رهيبة في شرح الأوضاع السياسية و الأزمات الخطيرة و خاصة فيما يتعلق بالربيع العربي ، بدون مجاملة ستكون فعلا تحفة سياسية على القنوات الفضائية .
– يبدو أنك تمتلك وصفة سحرية لتحقيقي حلمي الكبير.
– نشرات الأخبار أضحت مجرد أطباق دموية ، قتلى و جرحى و إنفجارات و إحتجاجات و غيرها من الأخبار المدمرة و هكذا أحيانا تتاح الفرصة لبعض الوجوه لتحليل الوضع بكل إهتمام ، البعض يموتون و البعض الآخر يهتم بتكوين الجمل الرنانة و يقدمون الأفكار الخلاقة للأوضاع الأكثر مأساوية .
واصل الصحفي المميز أفكاره الجهنمية و هو يعتبر حلم صديقه فرصة للتأكد فعلا من رداءة المشهد الإعلامي .
– و لكن كيف يمكنك ان تحقق لي حلمي الكبير ؟
نظر الصحفي إليه بكل إهتمام و هو يدرك ان الحلم المطلوب هو واقع الكثير من المحللين الذين سكنوا كل الفضائيات و أصبح وجودهم مرادف للدمار و الخراب.
– إطمئن صديقي لدي معارف في أغلب القنوات الفضائية سوف أتصل بهم جميعا و أعطيهم كل المعلومات عنك و أخبرهم أنك محلل سياسي متمرس يعرف خبايا العلاقات الدولية و يفهم جيدا دهاليز السياسة العالمية .
– شكرا صديقي الفاضل ، أنا سعيد انك سوف تساهم في تحقيق حلمي .
– إطمئن .. فقط عليك بمواصلة الإستماع لنشرات الأخبار حتى يكون لديك أكبر قدر من المعلومات ، و دائما حين تعبر عن آراءك عبر هذه القنوات عليك أن تتفادى ان تذكر مصدر معلوماتك ، تكلم دائما و كأنك صديق مقرب للمصدر المأذون و صديق حميم للمصدر الذي لا يرق إليه الشك .
بعد أيام من اللقاء التاريخي الكبير ، و فيما كان صاحبنا يسقي الورود في شرفة منزله وصلته مكالمة دولية من منسق الأخبار لقناة فضائية إخبارية مشهورة حيث طلب منه الإستعداد للمشاركة بمداخلة في نشرة الأخبار .. و أخبره أن الأسئلة سوف تتركز حول تطورات الوضع بليبيا .
.
فرح كثيرا بأول خرجة إعلامية محتملة له ، سيرتدي أبهى حلة و لكنه سرعان ما تذكر انها مداخلة هاتفية و بإمكانه ان يعبر عن آراه في أي وضعية يريد و بأي لباس ، مستلقيا على فراشه أو واقفا في شرفته.
بمجرد ما جلس منتشيا على أريكته حتى وصلته المكالمة التاريخية الموعودة ، في حين كانت زوجته تتابع نشرة الأخبار لأول مرة و كلها سعادة بزوجها الذي سيصبح قريبا شخصية مرموقة.
لابد من لقاء يجمع كل الفرقاء على طاولة حوار من أجل إيجاد مخرج سلمي للأزمة السياسية في ليبيا و يتعين ان يكون للجامعة العربية دورا بارزا بالتنسيق مع هيئة الأمم المتحدة ، التدخل الدولي سيؤدي الى تفاقم الوضع و لابد من تفادي أي ضربات جوية.
أكمل مداخلته بكل سرور و عرف كيف يكسب محاوره بكل سهولة و عاد ليتسمر قرب الشاشة ليسمع أحلى جملة في نشرة الأخبار و التي تتضمن شكر الصحفي له على مشاركته في النقاش المفتوح.
بمرور الأيام أضحى رقم لا يمكن تجاوزه عبر كل الفضائيات العربية ، و أصبحت لديه قدرات رهيبة تسمح له بتحليل كل الأوضاع السياسة العربية و خاصة أنها تتشابه في كل شيء ، حاكم يرفض التنازل عن الكرسي ، مسيرات و إحتجاجات ، هروب أو قتل أو سحل للزعيم
ثم وصول فصيل لسدة الحكم و من بعدها ظهور فصائل معارضة ثم تأتي مرحلة المبعوث الأممي و تبدأ جلسات الحوار بكل حلقاتها في جنيف
منذ 2 ساعتين
في إنتظار الوزير …….قصة بقلم بوفاتح سبقاق
كل شيء كان يبدو عاديا تلك الليلة ، بعد سهرة راقصة مع رجال الأعمال و أعيان المدينة في نزل القمر الأحمر ، غادر صالح المكان على الساعة الثالثة صباحا نحو قصره في حي المترفين بالرغم من حالة السكر التي كان فيها فقد إستطاع الوصول بسلام الى حيث يريد.
بعد نصف ساعة من إستلقاءه على السرير بكل ثياب السهرة ، أحس بأنغام الحفل تتهادى نحو أذنيه و لكن الغريب أنها لم تكن صاخبة بل هادئة و مميزة ، فتح عيناه و شغل أذناه ، إنه صوت الهاتف بعد جهد إستطاع أن يقترب من حافة السرير ، سمع صوتا مألوفا لديه يخاطبه .
– صديقي صالح ، بدون مقدمات ، هناك خبر سار أود أن أزفه إليك.
– لست بحاجة الى عملة صعبة و لا مشاريع و لا نساء ، ماذا تريد يا سمير ؟
– لو تسمع الخبر ستفقد رشدك و تنهض في الحال.
– هيا إسرع إنني جد متعب .
– سيستقيل غدا خمس وزراء من الحكومة .
– و ماذا يعنيني حتى لو تستقيل الحكومة كلها ؟
– ستكون وزيرا يا صالح ..
نهض صالح دفعة واحدة من فوق سريره و كأنه لم يشرب
قطرة كحول .
– هل صحيح ما تقول و كيف حدث ذالك ؟
– لقد إتصل بي أحد الرجال المهمين ، فإقترحتك عليه ، يجب أن تكون غدا في العاصمة لكي تقترب من مصدر القرار.
– إنه أسعد خبر سمعته في حياتي ، لقد جربت كل شيء و ملكت
كل ما أريد و لم يبق لي سوى أن أجرب الوزارة .
– لكن أي وزارة تريد أن تقودها ؟
– المهم أن أكون وزيرا و لو ليوم واحد .
– إذن غدا سأنتظرك ، فلا تتأخر لأن الحسابات كثيرة و الطامحون الى السلطة أكثر.
– لا تخش شيئا غدا سيكون عندك الوزير .
بعد المكالمة الوزارية قضى صالح ليلته يوقع القرارات و يمنح التفويض بالإمضاء لكل المديرين العامين من أجل تسهيل العمل و المبادرة الفردية ، و يستقبل في مكتبه مبعوثي السفارات الأجنبية .
فجأة سمع رنينا قويا ، أكيد رئيس الحكومة على الخط وضع يده على السماعة فتحول الهاتف بقدرة قادر الى منبه ، لقد إستقيظ من حلمه الجميل ، إنها الحادية عشر صباحا ، على كل حال سيتجسد الحلم الى واقع قريبا ، و يمكن إعتبار ما وقع له في المنام بمثابة تربص تحضيري للعمل الفعلي .
بعد حوالي نصف ساعة ، كان صالح المرشح للوزارة في كامل إستعداده لمغادرة قصره ، بأناقته الكلاسيكية و حقيبته الدبلوماسية سيكون وزيرا بمجرد مروره أمام مبنى قصر الحكومة فإذا أطل رئيس الحكومة على الشارع من خلال ستائر نافذته المزركشة لن يجد أجدر من صاحبنا.
أوصله سائقه الخاص الى المطار ، كانت الأنظار منصبة نحوه ليس لكونه سيصبح وزيرا و لكن لأنه بكل بساطة أكبر رجل أعمال في المدينة ، الجميع يقدمون له أخلص التحيات و هو يرد بنصف إبتسامة مصطنعة ، كيف لا و وده لا يقاس بأموال ، نفوذه يسبقه الى أي مكان .
ما إن تجاوز ردهة المطار حتى هرع نحوه المدير قائلا :
– مرحبا بالسيد صالح لك تذكرة محجوزة على أي خط داخلي أو خارجي تصله طائرتنا درجة أولى طبعا .
– شكرا تذكرة الى العاصمة فقط..
– حاضر موجودة و ستنطلق الطائرة و لو بنصف الركاب ، تعال إنتظر في مكتبي ثواني
حتى أعطي أمر الطيران .
عندما كانت الطائرة تشق أديم السماء ، كان صاحبنا يجول بذهنه عبر آفاق المستقبل القريب
سأصل العاصمة في الموعد المحدد قبل التعديل الحكومي ، كل ما أتمناه أن تكون المناصب الوزارية المقترحة في مستوى تطلعاتي ، ما يهمني هو الإشراف عل وزارة فاعلة تصب فيها كل المصالح ، لن أرضى عن وزارة الإقتصاد أو الصناعة بديلا ، إذا ظهرت معطيات أخرى سأقبل وزارة الخارجية أو الداخلية بكل تحفظ و لكن لن أقبل بأي حال من الأحوال بكتابة الدولة للصيد البحري أو الغابات أو وزارة المجاهدين …
أثناء إنشغاله بخياراته المختلفة ، أيقظته المضيفة من إغفاءته مقدمة له فنجان قهوة و الجريدة المسائية ، المضيفات يضربن عرض الحائط طلبات الركاب الآخرين في حين أنهن يسارعن
الى تنفيذ أي طلب لم يطلب للوزير الموعود ..
تامل عناوين العناوين الإفتتاحية للجريدة ، ما أثار إنتباهه عنوان بارز في الوسط و بالخط العريض – خمس وزراء يقدمون إستقالتهم دفعة واحدة – و كتب تحته مباشرة – إنهيار خمس مساكن بحي شعبي – تساءل في أعماقه : هل سقطت البيوت حزنا على ذهاب الوزراء الخمس؟
قرأ الخبر الذي يعنيه مليا و لكنه لم يجد فيه ما يشفي غليله، حيث لم يتم ذكر طبيعة الحقائب الوزارية المتخلى عنها بل كل ما كتب عبارة عن كلمات جافة من نوع مصدر مطلع و آخر مأذون ، الصحافة عندنا آخر من يعلم ، أعرف هذا الخبر قبل نزوله المطابع ، هؤلاء المعربون
لا يخرجون من مكاتبهم و دائما يشتكون لا يجيدون سوى اللعب على أوتار الماضي و مكاسب الأجداد ، أجزم بأنهم لا يعرفون شيء إسمه المهنية ..
بعد دقائق خرج صالح من الزوبعة التي أثارتها الجريدة في فنجانه ، فقد كان متأكدا بأنه سيعرف كل شيء عندما يصل الى العاصمة ، فصديقه سمير يعشش في دواليب الإدارة منذ
زمان ، إنه مقتنع بأن تلك الهالة التي كانت تحيط حول الوزارة و المناصب السامية قد زالت عند كل المواطنين ، فمنصب الرئاسة لم يعد يثير الإكتراث فما بالك الوزارة ، و عليه فقد ترسخت في ذهنه فكرة واحدة ضرورة إغتنام فرصة مكوثه في الوزارة لتحقيق مآربه الشخصية ، فلابد أن يخلق شبكة من المعارف في أجهزة السلطة حتى يضمن تواصل نفوذه و
أقصى شيء يتمناه صاحبنا أن ينفى سفيرا الى الخارج ، المهم في الوقت الحالي هو ضمان البداية .
تأمل صالح حقيبته الدبلوماسية و من خلالها يفكر في حقيبته الوزارية ، سيقوم بإرساء دعائم و تقاليد جديدة ، لن يغير مدخل الوزارة كما يفعل الآخرون بل سيغير كل المدراء العامون الموجودون بوزارته .
فجأة إنتبه جميع الركاب لصوت قائد الطائرة معلنا عن حدوث خلل تقني بأحد محركات الطائرة
و عليه طلب من الجميع التأكد من ربط الأحزمة و أخد كل التدابير الأمنية و إلتزام الهدوء أخدت إمرأة مسنة تبكي و أخرى تصرخ في حين أخذ الرجال يرددون آيات و تسابيح ، ماعدا
صالح الذي أقنع نفسه بتفكيره الحضاري بأن المشكل طفيف و سيحل لا محالة .
بعد دقائق أعلنت المضيفة خطورة الموقف و طلبت من الركاب إلتزام الهدوء ، صعق صالح في مكانه ، أيعقل أن أموت بهذه الطريقة من الجو الى الأرض ، يا لها من ميتة فظيعة .. أين أنا من رحمة الله ؟ لم أفعل في حياتي ما يستوجب رحمته ..
بعد لحظات أعلن القائد أنه سيلجأ الى الهبوط الإضطراري في أي مطار قريب و عليه فقد
طمأنت المضيفة الركاب بأن قائد الطائرة يتمتع بخبرة طويلة في الطيران.
– تبا لهذا القائد سوف يحقق الشهرة على حسابنا …قال أحد الركاب
في هذه اللحظات لم يكن صالح رجل أعمال و لا وزير بل مجرد راكب طائرة مهدد بالموت
بين الفينة و الأخرى، تمنى من صميم ذاته النجاة فهو مستعد للتخلي عن منصب الوزارة
و كل أمواله مقابل الحياة ، و لو يقترح عليه في هذه اللحظات أحقر منصب عمل في العالم
سوف يقبله بدون تردد فهو أفضل من مكانه في العالم الآخر.
في اليوم الموالي فتح أحد القراء صحيفته ليثير إنتباهه عنوانا بارزا في الوسط – الرئيس
يعين خمس وزراء جدد – و في زاوية أخرى عنوان أقل إثارة – بسبب هبوط إضطراري في مطار مهجور : قتيل و عشر جرحى – و جاء في تحليل الخبر الأخير – و قد أستدل على هوية القتيل الوحيد بحقيبته الدبلوماسية و هو رجل أعمال مشهور …-