ط
الشعر والأدب

مختارات من الشعر الأسترالي المعاصر للشاعرة / إِيما روول .قراءة و ترجمة : د.مسلم عباس الطعان

مكتب كندا  الشاعر / كريم جليل الصباغ

شاعرة وقصيدة: مختارات من الشعر الأسترالي المعاصر*
الشاعرة الاسترالية إِيما روول: جمالُ الموسيقى و قبح التشرّد ومسرح القصيدة
قراءة و ترجمة : د.مسلم عباس الطعان

مسافة البدء: استهلال مسافاتيّ لابد منه…!
في الحقيقة هناك مسافتان متسمتان بالصراع الوجودي: مسافة الجمال ومسافة القبح وكل مسافة منهما تتفرّع شجرتها إلى أغصان مسافاتية..هكذا تخبرنا أبجديات الفلسفة المسافاتية التي جادت بها أثداء القصيدة. رضعت المسافةَ حليباً شعرياً وها آنذا أشتغل عليها تنظيرا وتطبيقا منذ شروعي في كتابة اطروحتي للدكتوراه في جامعة سدني الغربية وحتى هذه اللحظة، وهي كذلك مشروعي القادم بإذنه تعالى لمرحلة ما بعد الدكتوراه Postdoctrate Program . حين تباغتني القصيدة أشعر بأن المسافات تتزاحمُ في المخيلة وتكون بؤرة التقاءها ونفورها وصراعها وتصالحها هو ما أطلقت عليه في اطروحة الدكتوراه تسمية مسرح القصيدة Poem Theatre ، وعندما أقرأ أي نص شعري تقودني المسافة إلى هذا المسرح لكي أكتشف هناك حقيقة الصراع الدرامي بين المسافات ومنشأ ذلك، على الأقل من باب القراءة النقدية الأكاديمية، هي أن هناك في النص الأدبي أيّأ كان نوعه توجد بؤرة مسافاتية جاذبة للمتلقي يطلق عليها فلاسفة علم الجمال مصطلح( المسافة الجمالية Aesthetic Distance )، وتلك المسافة يتركها في النص خالق النص ومبدعه للقارئ- المتلقي- الجمهور بوعي أو من دون وعي، لكي يمرح في حدائقها ويلتّذ بفاكهة بساتينها الجمالية ويغني جذلا فيها، ويعبر عن سعادته باكتشافه لمكنونات الجمال في حياة النص، وبراءة الأشياء الأولى المكونة للنص وكأنه يعيش في عالم البراءة وهو عالم الفردوس المفقود Lost Paradise على رأي الشاعر الإنجليزي وليم بليك في مجموعته الشعرية الموسومة أغاني البراءة وأغاني الخبرة :
Songs of Innocence and Songs of Experience
والتي درستها في رسالتي للماجستير في كلية الآداب/جامعة بغداد في عام 1986. ألم تكن تلك بداية للصراع بين الله سبحانه وتعالى الخالق البارئ المصوّر صانع الجمال في
الوجود المحسوس والوجود الآخر الذي لا تدركه الأبصار، وبين الشيطان ممثل القبح والظلام بما للكلمة من معنى؟! ومن هنا تقودنا مجسّات المسافة لقراءة تجربة إنسانية فريدة للشاعرة والفنانة الأسترالية إيما روول والتي ندرك من خلاها أزلية الصراع مابين مسافة الجمال ومسافة القبح.
-مسافة المقدمة: جمال الموسيقى في مواجهة قبح التشرّد
قامت الشاعرة وصانعة الألحان والأغاني الأدائية الراقصة إيما روول بمبادرة إنسانية تطوّعية لوضع حلول ناجعة لمعالجة أزمة التشرّد Homelessness Crisisبواسطة جمال الموسيقى Beauty of Music، وذلك من خلال جمع تبرّعات خيرية لأولئك الذين يلتحفون السماء عن طريق إقامة حفلات أو عروض موسيقية أدائية. أن المشردين الذين يجدون أنفسهم بلا مأوى، هم جلّهم من كبار السن والمعتوهين والمدمنين على تعاطي الخمر والمخدرات. ثمّة هدفان دفعا إيما روول للشروع بحملتها الخيرية تلك: الأول إنساني إذ كانت تفكر بجمع الأموال لغرض مساعدة المشرّدين في حل مشاكلهم الحياتية المستعصية، وهذا بحد ذاته فعل انساني- جماليّ لمواجهة قبح وظلاميّة العالم الرأسمالي الجشع، و الثاني هو هدف فني- جماليّ بامتياز، حيث كانت تسعى لخلق فرصة للموسيقيين الشباب، المشردين منهم بالذات، بأن يمارسوا هواياتهم الفنية ويقدموا أعمالهم الموسيقية ويكسبوا جمهورا عريضا عبر العروض الأدائية في مسرح الشارع وفي الكنائس والجمعيات الخيرية والمسارح العامة والمراكز الثقافية. والشاعرة بجهودها الكبيرة تلك، قدمت خدمة جليلة لمساعدة المشردّين ليس ماديا فحسب، وإنما من خلال إعادة تأهيلهم انسانياً وجمالياً في الحياة و المجتمع، فوجد الكثير من الفنانين المشردّين فرصتهم المناسبة لمعالجة قبح وضعهم الاجتماعي عبر تسويق بضاعتهم الجمالية في فن الموسيقى الأدائية Art of Performance Music، وذلك بتطوير مهاراتهم الأدائية الموسيقية، ولشعورهم بأن ثمة ارتياح سايكولوجي بدأ يكتسح جدران مشاكلهم النفسية المستعصية، حيث بدأوا يشعرون بانتمائهم للعائلة الإنسانية الكبرى، وبأنهم لم يعودوا منبوذين أو خارجين عن نواميس الحياة الاجتماعية.
شرعت الشاعرة إيما روول بمشروعها الخيري-الاجتماعي-الفنّي بالعمل مع فرق فنية للشباب، وذلك بإعطائهم الإرشادات والنصائح حول ماهية العمل للسعي بتقديم عروض جمالية أدائية موسيقية مما يساهم في تنمية و تطوير قدراتهم ومهاراتهم الفنية الأمر الذي يعطيهم دافعا معنوياً لخلق الجمال بأدوات الأداء الدرامي والموسيقي. كانت الشاعرة تدرك بأن هؤلاء الشباب كانوا يجدون صعوبة في الحصول على جمهور عريض من المشاهدين والمتلقين يهتم بمواهبهم ويستمع بإهتمام بالغ إلى مؤلفاتهم الموسيقية ويتابع ويشاهد عروضهم الأدائية، وعبر مشروعها الإنساني والفني هذا حققت الشاعرة نجاحا كبيرا في معالجة بعض المشاكل التي يعاني منها المشردون وذلك بإعادة تأهيلهم وصهرهم في المجتمع عبر تقديم مثل هذه الأعمال الفنية التي وجدوا بأداءها المعادل الجمالي للخسارات النفسية القاسية التي مرّوا بها وعانوا من مراراتها بسبب عقدة التشرّد.
ومن الجدير بالذكر بأن الشاعرة بدأت مشروعها في البداية بجهود كبيرة انطلاقاً من بيتها باستخدام حاسوبها الشخصي ووظفت وسائل التواصل الاجتماعي لنجاح مهمتها النبيلة تلك، فحققت نجاحا كبيرا منقطع النظير في إيصال رسالتها الأخلاقية والفنية للمجتمع لإنقاذ تلك الشريحة المهمشة التي عانت من الظلم والاجحاف المؤسساتي و الاجتماعي. واستجابة لتلك الجهود السامية حصلت مبادرة الشاعرة على تجاوب كبير من الجمهور و المتبرعين والفرق الموسيقية التي أبدت استعدادها في المساهمة في المشروع وانجاحه من دون مقابل.
ومنذ نعومة أظفارها طوّرت الشاعرة- الفنانة إيما روول من هوايتها للغناء ذي الهارمونية اللحنية المتناغمة مع الفكر الأدائي، حيث فكرت وبوعيّ جماليّ مبكر بعدم إضاعة أية فرصة مؤاتية للقيام بالفعل الأدائي والموسيقى الراقصة، وقادها ذلك للاشتراك في الأعمال الفنية في التجمعات المدرسية والاحتفالات الجامعية، حيث تخرجت في عام 2006 من الكلية الفيكتورية للفنون الموسيقية والمسرحية وعملت كممغنية ومقدمة عروض مسليَّة في دزني كروز لعدة سنوات، وقامت بتأليف ألحان وأغاني العديد من العروض الأدائية التي كانت تعرض في الكابيريهات والمسارح وكانت من الأعضاء المؤسسين والفاعلين في جماعة كابيلا وغنغر الصوتية في مدينة ملبورن الاسترالية ومثلت معهم من 2010-2016.وكذلك ساهمت الشاعرة بفاعلية مائزة في جماعة The Idea of North الفنية حيث أظهرت طاقة مدهشة في لعبها دور السوبرانو Soprano وشكل أداءها الدرامي فوق خشبة المسرح حضورا لافتا أضاف لنجاحات الجماعة الكثير من الجمال والتميز. ومن أجل تحقيق مهمتها الانسانية والفنية والجمالية شاركت إيما روول مع العديد من الفرق الموسيقية في تقديم العروض الأدائية في مهرجانات موسيقية محلية كمهرجان أديلايد، ومهرجانات عالمية كالمهرجان العالمي للموسيقى الصوتية في ألمانيا ومهرجان الحكايات الشعبية ومهرجان كوينزكلف للموسيقى ووضعت تسجيلات ألحانها الموسيقية في قصائد غنائية درامية في ألبومين الأمر الذي جعل أشعارها قليلة الظهور أو تكاد تكون نادرة على مستوى صدورها وظهورها بين دفتي ديوان شعري. ولابد من القول بأن شخصية إيما روول الفنية ذات المؤهلات الموسيقية الأدائية تقاسمها العطاء الإنساني شخصية أخرى ألا وهي شخصية أيما روول التربوية حيث كانت الشاعرة قد حصلت أيضا على شهادة بكالوريوس في التعليم الإبتدائي من الجامعة الكاثوليكية الأسترالية، ولعدة سنوات مارست حياتها المزدوجة كمعلمة ذات رسالة تربوية
ومؤدية ذات رسالة فنية.
-مسافة ترجمة النص
النص: حقلُ العُشبِ في آخرِ الصيفِ
كم أتمنى
أن أكونَ نائمةً
في حقلِ عُشبِ آخرِ الصّيفِ،
لأصرخَ
حتى تخشوشنَ حنجرتي.
أن أصرخَ
حتى أبصرَ النتوءاتِ الحادّةَ
للعُشبِ الآيلِ للإصفرار .
بعدَ ذلكَ أركنُ للهدوءِ
وأصيخُ السمعَ
لوقتٍ طويلٍ للغاية.
أسمعُ خَشخَشةً
كأنَّها تتحرَّكُ
تحتَ أذنْي مباشرةً.
أسمَعُ عدّةَ دندناتٍ رتيبة
وتغريدات.
أنامُ بهدوءٍ مطبقٍ
والمضغاتُ الطاحنةُ الهادئةُ
للأغنامِ، تقتربُ شيئاً
فشيئاً.
أتمنى أن تقضمَ أحداهُنَّ أذنْي برفقٍ
لكي أنفجرَ ضاحكةً
بعدَ ذلكَ أصرخُ بصوتٍ عالٍ
وأحياناً أكفُّ عن ذلكَ…
لأبصرَ الألوانَ الزجاجيَّةَ المتحرّكة
من خلالِ دمعةٍ حبيسةٍ
قبلَ أن تسقطَ
من عيني.
-مسافة قراءة النص انطلاقا من بؤرة مسرح القصيدة
عند الشروع بقراءتنا المسافاتية للنص، نحاول أن نكتشف هارموني Harmonyالحوار مع الطبيعة وفق ما خبرناه من اشتغال الشاعرة ايما روول على ثيمة التموسق مع الآخر، أيا كان هذا الآخر بلبوس إنساني أو منتمٍ للطبيعة وجوداً وجمالاً.
فعل التموسق مع الآخر هو جزء من مسافاتية الحوار الموسيقيّ الجمالي، فالموسيقى تمتلك مسرحها المبني أساسا على بنية الحوار الجمالي Structure of Aesthetic Dialogue ، اذ يبدأ هذا الحوار كفكرة جمالية تقبع في دهاليز المخيلة أولا ثم تنتقل شرارتها إلى الأصابع التي تقوم بدورها بإقامة طقوس حوارها مع أوتار الآلة الموسيقية حتى يرافقها صوت الممثل- المغني الأدائي من فوق خشبة مسرح القصيدة.
مسافة عنوان النص أو عتبته المسافاتية (حقلُ العُشبِ في آخرِ الصيف) تخبرنا أولا عن المكان الذي يصبح مسرحاً جماليا لدراما الأحداث أو التفاصيل الدرامية المخبوءة في الكلمات الأولى حيث نقرأ مسافتي المكان والزمان Space and Time وهما عمودان مهمان من أعمدة الاشتغال الدرامي-المسرحي: فالحقل العُشبيُّ هو مكان و(آخرالصيف) يشير بشكل جليّ للزمان وهي بدورها تكون شخصيات درامية لكل واحدة منها وظيفة جمالية تترجمها طاقة النص ومدياته المسافاتية.ثمَّة قراءة أخرى ربما نتوقف عندها عندما نفكر بعمق بعبارة( Late Summer ) وفق مسافة معناها القاموسي حيث تعني (صيف متأخر أو راحل)، وإذا سلَّمنا بدلالة المعنى الثاني ، فتبرز لدينا شخصية ذات حضور درامي مهدد لماهية وجود وحياة المكان والزمان وهي شخصية الموت التي توحي بها مفردة الراحل..فالفعل الدرامي للموت هنا لا يهدد الزمان المتمثل بشخصية (الصيف) فحسب، وإنما سيشمل فعله القاسي الحقل العُشبي (حقل الُعشبِ في آخرِ الصيف) وقبل الولوج في المشاهد الدرامية التي تمثلها مقاطع القصيدة Stanzas of the Poem علينا أن ندرك أن الشاعرة في مسرح القصيدة المسافاتي لا تكتفي بطاقتها الجمالية كخالقة للنص، بل هي ستلعب أدوارا أخرى في ذات الوقت، حيث تكون الممثل- المؤدي والمخرج المنفذ والمحاور للشخصيات الأخرى.
أن الشخصية الفنية للشاعرة ترافقها حتى في فعلها الدرامي في الحياة حينما تكون وحيدة مع الطبيعة تجري حوارها الجمالي مع كل الأشياء التي تحيط بها.في المشهد الدرامي الأول تعلن الشاعرة أو الشخصية التي تمثلها عن أمنيتها في النوم في ( حقلِ عُشبِ الصيفِ المتأخر)، بعد ذلك تقوم تلك الشخصية بفعل درامي جديد عبر آلية الصراخ Mechanism of Crying حتى (تخشوشن الحنجرة).أن فعل الصراخ هذا له طبيعة مزدوجة أيضا، فهي تمارسه أدائيا في العروض الدرامية الموسيقية كفعل احتجاجيّ جماليّ ضد قبح الواقع، وتمارسه هنا أيضا من فوق خشبة مسرح القصيدة.بيد أن لحظة صراخها تلك مرتبطة بحدث درامي قادم سيقع في (آخر الصيف) عندما يكون صراخها ردة فعل درامية للمشهد الذي تبصر فيه (النتوءات الحادة/ للعشب الآيل للإصفرار).في هذا المشهد أيضا ثمّة لعبة درامية حسية ذات إيقاع لوني.فشخصية ( الصراخ) هنا تؤدي دورها الدرامي الذي يقود إلى فعل السماع، فهي تصرخ بصوتٍ عالٍ تسمعه هي ومن يسمع خطابها الصوتي في الطبيعة، وهي تصرخ حتى تبصر نتوءات العشب الحادة وهي تنذر بتحوّل لوني في الطبيعة، فمملكة العشب الأخضر تكون آيلة للسقوط في شباك (الاصفرار ) الذي يرمز ليس للعبة التحول الدرامي اللوني فحسب، بل يقودنا للتفكير بشخصية مهددة لشخصية الحياة ألا وهي شخصية الموت. في المشهد الثالث ولغرض تخفيف حدة التوتر الدرامي المتصاعد تركن الشاعرة- الممثلة للهدوء لكي تصيخ السمع طويلا لما يجري حولها.فالشاعرة بحكم اشتغالها الموسيقي الأدائي في منطقة الأصوات تسعى بوعي أو دون وعي لتملئ جعبتها الصوتية بأصوات جديدة طازجة من الطبيعة. في المشهد الرابع تسمع (خشخشة ) والكلمة ذاتها تحمل في طياتها ايقاعاً موسيقيا بين حروفها رغم الخشونة الصوتية التي تبدو عليها. فالخشخشة هنا بفعلها الصوتي تصبح شخصية درامية ذات فعل متصل بآليات فنية تمتلكها الشاعرة وتمارسها في فعلها الدرامي في الحياة وفي المسرح.أن شخصية ( الخشخشة) التي تتحرّك
تحت اذنها تقودها لملاقاة شخصيات اعتادت على سماع ايقاعاتها، بيد أنها تأتي هنا بشخوص درامية جديدة، فشخوص( الدندنات) و (التغريدات) هنا مصدرها ليس الآلات الموسيقية التي اعتادت على سماعها، وإنما هي الطبيعة -الأم التي تريد الشاعرة محاورتها جماليَّا لكي تنعم بالهدوء الجماليّ في حضنها كأم رؤوم. في المشهد الخامس تعود الشخصية المركزية لفعل النوم الهادئ، لكن أصوات ( المضغات الطاحنة الهادئة) تقدم لنا شخصيات جديدة تمثلها ( الأغنام التي تقترب شيئا فشيئاً) من الشاعرة- الممثلة. في المشهد السادس تعود بنا الشاعرة لممارسة الفعل الدرامي لآلية التمنّي، فبعد تحقق أمنية النوم في (عشب آخرالصيف) التي تابعناها كمتلقين في المشهد الأول في مسرح القصيدة، تعود الشاعرة لأمنية جديدة لا تخلو من الحس الفكاهي Comic Sense ، ألا وهي أمنية قضم أذنيها برفق من قبل شخوص الأغنام التي سيجعل فعلها الدرامي من الشاعرة- الممثلة تنفجر ضاحكة لتعود مجددا لآلية ( الصراخ) الدرامي التي تجعلها تصرخ أحيانا وتكف عن ذلك في أحيان أخرى. أن فعل الانفجار من الضحك الذي تسببه تلك المخلوقات الوديعة يجعل من الشاعرة- الممثلة تبصر حركةً لألوانٍ زجاجيةٍ ؛ ولكن ثمة تحول دراماتيكي يقع في المشهد الختامي من الحس الكوميدي Comic Sense نحو الحس التراجيدي Tragic Sense الذي تجسده شخصية ( الدمعة الحبيسة) التي تسقط في النهاية وكأنها ترثي هذا الوجود الذي لم يعد بريئاً كما خُلِقَ أول مرة، فالبراءة التي تمثل الوجود الجمالي شوهتها مظاهر القبح لدى الإنسان الذي شوه الطبيعة وقسى على مخلوقاتها الوديعة، وتمادى فعل الإنسان القبيح ليس في تشويه جمال الطبيعة فحسب، وإنما تعدى ذلك إلى أخيه الإنسان فبات يقسو عليه ويظلمه ويغتصب حقوقه ويقصيه من بيته ويجعل منه مشرّدا دون بيتٍ أو مأوى يلجأ إليه.
-مسافة الخاتمة…
قبيل اسدال ستائر مسرح القصيدة بمسافته الختامية لابد لنا نحن جمهور القرّاء- المتلقين أن نلتقِ بالشاعرة والفنانة المثابرة إيما روول وجها لوجه لنصفق لفعلها الإنساني-الفني- الجماليّ الذي أمتعنا وغرس في قيعان وعينا شجرة محبة وجمال نحتاج الى الركون إلى ظلها الظليل لنصغي إلى موسيقاها عندما تهددنا الأصوات النشاز لأشباح القبح في هذا العالم. وها هي الشاعرة تهمس في أذن كل واحد منا عندما تقرأ في وجوهنا تساؤلاً عن خبرتها الواسعة في توظيف الحس الجماليّ في ميدان المهنة المسافاتية للكلمة ووقعها الموسيقي والجماليّ في الحياة فتقول: “أنا خبيرةٌ في ضّم الكلمات لبعضها البعض بطريقةٍ تحرّك الناس وتقنعهم…، تحرّكهم عاطفياً عن طريق الشعر”. أنّ الخبرة التي حصلت عليها الشاعرة- المعلمة-الانسانة من الحياة ومن التجارب الموسيقية والأدائية جعلت منها فنانة ليس في الفعل الموسيقي- الأدائي فحسب؛ وإنما تعدى ذلك الى القدرة على ولوج مسافاتٍ سايكولوجية عميقة للمتلقي، وبذلك فأنّ مهارتها وخبرتها الجماليّة في ضم الكلمات في حضن واحد بطريقة شعرية تترجم إيقاع إحساسها المرهف بانسانية الإنسان وحاجته الملّحة للعودة لذلك الحضن الجماليّ حينما يكون مهدّدا بشحوب الواقع وظلاميّة القبح المنتشر في كل زمان ومكان. إنّ الشاعرة- الفنانة إيما روول تصغي بأحاسيسها للآخر وتتموّسق بهارمونيةٍ جماليَّةٍ مع آماله وأوجاعه وطموحاته، ولذلك قامت بفعلها الخيري والإنساني لاكتشاف التأثير الجماليّ لشعريَّة الموسيقى في مواجهة قبح التشرّد كما جاء في مسافة المقدمة. وهكذا فأن الشاعرة تعطي لكلّ إنسان، بل لكلّ كائن في الوجود أهميةً جماليّة، فالإنسان والحيوان والطبيعة، باختلافاتها المسافاتيَّة، تشترك في شعريّة الموسيقى، حيث تتناغم وتتموّسق وتلتقي بعضها مع البعض الآخر في مسافة الموسيقى التي تصبح بؤرة جماليَّة جامعة لكلّ المسافات، حيث تؤكد الشاعرة على أنَّ هناك ” موسيقى للجميع، وثمَّة جمهور ( يصيخُ السمعَ جماليّاً ومسافاتيَّاً) لكلِّ فرد”.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى